في قلب الهلال الخصيب، حيث تتعانق دجلة والفرات، وحيث انبثقت أولى شرارات المدنية، عاش شعب ضارب في عمق الزمن، حمل على كتفيه عبء تشكيل التاريخ والحضارة: الكورد.
إن الحديث عن الكورد في ميزوبوتاميا ليس مجرد سرد لأسماء وأحداث، بل هو عودة إلى فجر الإنسانية، حيث ولدت المدن، وخُطّت الكتابة، وشُيّدت أول المعابد، وابتُكرت القوانين.
من جبال زاغروس إلى سهول سومر
تشير الدراسات الأثرية واللغوية إلى أن الجبال والهضاب الممتدة من زاغروس حتى تخوم سهول نينوى ووان كانت موطناً أساسياً لأسلاف الكورد منذ آلاف السنين قبل الميلاد. في هذه المنطقة، التي تُعتبر العمود الفقري الجغرافي لميزوبوتاميا، أسهمت القبائل الكوردية المبكرة في التواصل والتبادل الثقافي مع السومريين والأكديين والحوريين والميتانيين.
هذه التداخلات لم تكن مجرد احتكاك سطحي، بل صهرت التجارب في بوتقة حضارية واحدة، جعلت الكورد جزءاً من صانعي المعجزات الأولى للبشرية.
الحوريون والميتانيون… إرث الكورد القديم
في الألفية الثالثة قبل الميلاد، برز الحوريون كقوة سياسية وثقافية في شمال ميزوبوتاميا، وقد ربطت أبحاث تاريخية عديدة أصولهم بالإرث الكوردي القديم. أسس الحوريون مدناً كـ”أوركيش” و”واشوكاني”، وكانت لهم إسهامات كبرى في الفنون والعمارة والموسيقى.
ثم جاء الميتانيون في الألفية الثانية قبل الميلاد، ليؤسسوا واحدة من أعرق الممالك التي امتدت من أعالي دجلة حتى سوريا الداخلية، واضعين بصمتهم على السياسة الدولية في مواجهة مصر الفرعونية والحيثيين.
رغم تعدد القوى التي تعاقبت على ميزوبوتاميا — من آشوريين وبابليين وفرس ويونان وعرب — ظل الكورد محافظين على لغتهم وهويتهم، حتى وإن تبدلت الأسماء والخرائط.
إن الثقافة الكوردية تحمل حتى اليوم أنماطاً موسيقية، وأمثالاً شعبية، وأساطير، يمكن تتبع جذورها إلى روايات وأساطير ميزوبوتامية كـ”ملحمة جلجامش” وقصص الطوفان.
لم يكن الكورد مجرد سكان في قلب ميزوبوتاميا، بل كانوا جسراً حضارياً بين الشعوب الجبلية والسهول الزراعية، وبين الشرق والغرب. عبر طرقهم الجبلية مرت القوافل، وانتقلت المعادن، وتبادلت الشعوب المعارف.
لقد ساهم موقعهم الجغرافي في جعلهم شهوداً ومشاركين في التحولات الكبرى: من الزراعة الأولى، إلى اختراع العجلة، إلى نشوء القانون.
إن القول بأن الكورد من أقدم شعوب ميزوبوتاميا ليس شعاراً عاطفياً، بل حقيقة تدعمها الحفريات، والنقوش المسمارية، والدراسات المقارنة في اللغات القديمة.
إنها دعوة للنظر إلى التاريخ بعين أكثر إنصافاً، وللاعتراف بدور هذا الشعب الذي حافظ على وجوده رغم العواصف السياسية، وبقي جزءاً أصيلاً من فسيفساء الحضارة الإنسانية.
بنكين محمد/عامودا