في ميزان القانون، لا يُحاسَب الإنسان على ما يفكر به، بل على ما يصدر عنه من أفعال أو أقوال تُلحق ضرراً حقيقياً بالمجتمع أو الأفراد. من هنا تنبع خطورة التحريض، فهو ليس مجرد رأي أو تعبير عابر، بل هو دعوة مباشرة أو غير مباشرة إلى الفعل الإجرامي، قد لا يرتكب الجريمة بيده، لكنه يُطلق شرارتها.
التحريض… الجريمة التي لا تمسك السكين لكنها تُوجهها
التحريض أشبه بمن يعطي الخريطة والنية والأسباب لمن ينفّذ الجريمة. قد لا يشارك المحرّض في التنفيذ، لكنه يُغذي الفعل الإجرامي بالأفكار، ويهيّئ بيئته النفسية والاجتماعية.
لهذا، ترى القوانين تُعاقب المحرّض حتى لو لم تنفّذ الجريمة، باعتبار فعله تهديدًا للسلام العام، وسبباً محتملاً في إشعال العنف أو الكراهية.
في عصر الإعلام المفتوح والمنصات الاجتماعية، صار التحريض أسرع من الرصاص. يكفي خطاب واحد مشحون بالكراهية، ليتحول جمهور إلى قطيعٍ منفلتٍ يرتكب جرائم جماعية.
لقد شهدنا أمثلة دامغة: من خطابات الكراهية التي سبقت مذابح رواندا، إلى التحريض الطائفي الذي مزق بلداناً عربية.
لهذا تُعامَل الكلمة المحرّضة كما يُعامل السلاح في يد المجرم، فـ”من حرّض على القتل، قد قتل بلغةٍ أخرى”
كل مجتمع يستند إلى عقد ضمني بين أفراده: الاحترام، السلم، القانون. لكن المحرّض ينسف هذا التوازن، ويدعو إلى الفوضى، أو يُشعل الصراعات العرقية والمذهبية والسياسية.
إنه يعتدي على الاستقرار دون أن يطلق رصاصة، ويغتال الثقة بين مكوّنات المجتمع بعبارة واحدة.
التحريض ليس فعلاً بسيطاً، بل غالباً ما يكون فعلًا منظّماً:
قد يكون سياسيًا لبث الفتنة أو تفكيك الخصوم.
أو دينياً لزرع التطرف واستباحة الآخر.
أو اجتماعياً لهدم منظومات القيم أو تشويه فئات بعينها.
في كل هذه الحالات، لا يكون التحريض تعبيراً بريئاً، بل سلاحاً نفسياً يُعدّ للجريمة كما يُعدّ المسدس.
يعتقد البعض أن تجريم التحريض تقييد لحرية الرأي، لكن الحقيقة أن القانون لا يُعاقب النوايا، بل يُعاقب التحريض الذي يُحدث خطراً حقيقياً أو يُرجّح حصول جريمة.
فإذا قلت: “فلان لص”، فهذا قد يُعدّ رأياً أو حتى تشهيراً.
لكن إذا قلت: “يجب ضربه أو التخلص منه”، فقد دخلت في منطقة التحريض المباشر، وهنا يتحوّل الكلام من رأي إلى أداة جريمة.
التحريض ليس رأيًا… بل شرك في الجريمة
إن التحريض فعلٌ يُخاطب الغرائز أكثر من العقول، ويستثمر في الجهل أكثر من المعرفة، ويستبدل القانون بالانتقام. لذلك، يُعامَل المحرّض كمجرم، لأنه في لحظة ما، يصبح هو الأصل، والبقية مجرد أدوات تنفيذ.
والسؤال الأخلاقي والسياسي والإنساني الذي يجب أن يُطرح دائماً:
من يزرع النار… هل يمكن تبرئته لأنه لم يحترق بها؟
بنكين محمد/عامودا