العبودية المختارة… حين تصنع الشعوب طغاتها

بنكين محمد
في تاريخ كل أمة، هناك لحظة خضوعٍ أخطر من ألف حرب، ولحظة خوفٍ أخطر من ألف هزيمة.
ذلك لأن الشعوب لا تُستعبد بالقوة فقط، بل تختار العبودية أحيانًا طوعًا، تحت مسمياتٍ براقة: الأمن، الاستقرار، الوطنية، أو الخوف من الفوضى.
هذا هو جوهر ما سمّاه الفيلسوف الفرنسي إتيان دو لا بويَسي بـ«العبودية المختارة»؛ حين يصبح الخضوع عادة، والطاعة فضيلة، والصمت حكمة. حين يتحوّل المواطن إلى جندي في خدمة من يستبد به، لا لأنه يُكره على ذلك، بل لأنه يرى في المستبد خلاصه الوحيد.
في الشرق الأوسط، لم تُبنَ الأنظمة على الطغيان فحسب، بل على ثقافة الخضوع المتوارثة.
لقد أُقنع الناس بأن الحرية ترفٌ لا يليق بالمقهورين، وبأن العدالة مؤجلة إلى حين، وبأن السؤال فتنة. فتحوّل الوطن إلى مزرعة، والزعيم إلى أبٍ أبدي، والشعب إلى قطيعٍ يخاف من الحرية أكثر مما يخاف من السوط.
العبودية المختارة هي تلك اللحظة التي يتحوّل فيها الخوف إلى قناعة، والظلم إلى قانون، والسكوت إلى مشاركة في الجريمة.
حين يقتنع المواطن أن بقاء الحاكم الظالم “أهون من الفوضى”، أو أن “الوطن لا يحتمل التغيير”، يكون قد سلّم مفاتيح روحه، لا لحاكمٍ واحد، بل لمنظومةٍ كاملة تُعيد إنتاج الطغيان باسم الوطنية تارة، وباسم الدين تارة أخرى.
في سوريا، لم تكن المأساة في سلطةٍ قهرت شعبها فقط، بل في أجيالٍ تربّت على الخضوع كأنه قدرٌ تاريخي.
في مدارس تُعلّم التمجيد قبل التفكير، وفي إعلامٍ يُدرّب المواطن على الخوف، وفي مجتمعٍ يُقصي من يرفع رأسه باسم “الحكمة” و“الواقعية”.
وهكذا، تحوّلت العبودية من حالةٍ مفروضة إلى حالةٍ مرغوبة، ومن استبدادٍ خارجي إلى قيدٍ داخليٍّ يسكن النفوس قبل المؤسسات.
إن أخطر الطغاة ليس من يجلس على الكرسي، بل من يعيش في عقول الناس.
فالاستبداد لا يموت بسقوط النظام، بل بزوال الخوف من التمرّد عليه.
وهذا ما لا يفهمه كثيرون حين يظنون أن التغيير يبدأ من القمة.
كلا، فالتغيير يبدأ من الفرد، من قراره أن يقول “لا” في وجه الباطل، مهما كان الثمن.
الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع.
ومن يرضى بالعبودية خوفًا من الجوع، سيجوع مرتين: مرة للكرامة، ومرة للخبز.
أما من يختار الحرية، فإنه يدفع ثمنها مرة واحدة، لكنه يعيش بعدها إنسانًا كاملًا.
لقد آن الأوان أن نعترف:
الطغاة لا يصنعون العبودية وحدهم، بل نحن من نغذّيهم بالصمت والتبرير والخوف.
ومن أراد وطنًا حرًّا، فليبدأ بتحرير نفسه أولًا من العادة، ومن الوهم بأن الاستقرار أهمّ من الكرامة.
فالحرية لا تنتصر حين يسقط الطاغية، بل حين يتحرر الشعب من حبّ الطغيان.
وحين يدرك أن الكرامة ليست شعارًا سياسيًا، بل شرط وجودٍ إنساني لا يقبل المساومة.


ملاحظة: الصور رمزية. من النت
المقالة تعبر عن رأي كاتبها


