زمن الكورد… من الهامش إلى محور السياسات الدولية

زمن الكورد… من الهامش إلى محور السياسات الدولية

بنكين محمد

تشهد القضية الكوردية تحوّلاً نوعياً في موقعها على الخارطة السياسية الإقليمية والدولية. فبعد أن ظلت لعقودٍ طويلة قضية هامشية أو مؤجلة، باتت اليوم في صميم النقاشات الاستراتيجية بين القوى الكبرى، وركيزة أساسية في موازين القوى بالشرق الأوسط. هذا التحول لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة تراكُم تاريخي لنضالٍ سياسي وعسكري وثقافي امتد لعقود، تخللته مراحل من التضحيات والصبر والعمل الدبلوماسي الهادئ.

تغيّرت مقاربة القوى الكبرى تجاه الشرق الأوسط بشكل جذري خلال العقدين الأخيرين. فمع تراجع مركزية بعض الأنظمة التقليدية وصعود فواعل محلية جديدة، أصبح من غير الممكن تجاهل الدور الكوردي في معادلات الاستقرار والأمن الإقليمي.
الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص أعادت تعريف علاقتها بالكورد، من كونهم حلفاء تكتيكيين في الحرب على الإرهاب إلى شركاء استراتيجيين في إدارة التوازنات الإقليمية. هذا ما عكسته بوضوح تصريحات مسؤولين أمريكيين بارزين، أبرزهم:
مارك سافايا، المبعوث الأمريكي إلى العراق، الذي قال في إشارة رمزية لافتة: “والدي هو مسعود البارزاني”.
هذه العبارة، رغم بساطتها، تحمل أبعاداً دبلوماسية عميقة، إذ تعبّر عن إدراك واشنطن للمكانة التاريخية والمعنوية التي يمثلها البارزاني كرمزٍ للحرية والاعتدال السياسي.
جول ريبرن، مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، صرّح قائلاً: “أي حجرٍ يُرمى صوب الكورد فهو يجرحنا”.
وهي إشارة واضحة إلى الانتقال من مرحلة التعاطف الأخلاقي إلى الالتزام السياسي، ومن “الموقف المتفرج” إلى “الموقف الشريك”.
تلك التصريحات، وغيرها، تعكس تحوّلاً نوعياً في النظرة الدولية إلى الكورد: من كونهم “قضية إنسانية” إلى كونهم “شركاء سياسيين” في صناعة القرار.
أثبتت التجربة الكوردية في العراق، على وجه الخصوص، أن كوردستان ليست مجرّد إقليم جغرافي، بل نموذج سياسي واقتصادي وإداري متقدّم في بيئةٍ إقليمية تعصف بها الأزمات.
فمنذ عام 1991 وحتى اليوم، استطاع الإقليم أن يبني مؤسساتٍ فاعلة، واقتصاداً متنامياً، وعلاقاتٍ دولية متزنة، جعلته نقطة جذبٍ سياسية واستثمارية في الشرق الأوسط.
كما أن الخطاب السياسي الكوردي — القائم على الاعتدال والانفتاح والحوار — جعل من كوردستان مساحة للتوازن بين القوى المتصارعة، ووسيطاً موثوقاً في ملفاتٍ إقليمية معقدة.
وفي العقل الغربي، باتت كوردستان تُقرأ اليوم كـ”رمزٍ للحرية والكرامة”، وكنموذجٍ ديمقراطي نسبي يُحتذى به في محيطٍ يضجّ بالتوترات والانقسامات.
لم تعد الخطابات التي تنكر الوجود الكوردي أو تهمّشه تجد صدى في الواقع السياسي المعاصر. فالحقائق الجغرافية والديموغرافية والاقتصادية التي تشكّل كوردستان باتت راسخة يصعب تجاوزها.
إن إنكار هذه الحقيقة لا يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمات، بينما الاعتراف بها ودمج الكورد كشركاء في صناعة القرار يفتح آفاقاً جديدة للاستقرار الإقليمي.
لقد أدركت العديد من القوى الدولية والإقليمية أن التعامل مع الكورد ليس خياراً عاطفياً، بل ضرورة سياسية لضمان توازن المصالح في منطقةٍ معقدة. فالكورد اليوم يمثلون عنصر اتزانٍ حقيقي في المعادلة الإقليمية — لا تهديداً، بل ضمانة ضد الفوضى.
ما يُسمّى اليوم بـ”زمن الكورد” ليس مجرّد توصيفٍ إعلامي أو شعارٍ سياسي، بل انعكاس لتحولٍ بنيوي في طبيعة الدور الكوردي في الشرق الأوسط.
إنه زمنٌ تُكتب فيه السياسة بلغة الكرامة، ويُعاد فيه تعريف العدالة عبر الاعتراف بشعبٍ طال إنكار وجوده، وبأرضٍ طال تغييبها عن القرار.
فالكورد لم يعودوا طرفاً مفعولاً به في صراعات القوى الكبرى، بل أصبحوا فاعلين مؤثرين في معادلات السياسة والأمن، يمتلكون الشرعية السياسية، والقدرة على التفاوض، ورؤية استراتيجية تقوم على الشراكة لا الصدام.
رغم هذا التحول الخارجي الإيجابي، تبقى التحديات الداخلية أكبر تهديدٍ للفرصة التاريخية المتاحة أمام الكورد اليوم. فالانقسام السياسي والتجاذب الحزبي ما زال يضعف الموقف الكوردي ويحدّ من قدرته على التفاعل الموحد مع العالم.
إن الحفاظ على هذا الزخم الدولي يتطلب قيادة موحدة، وخطاباً سياسياً رشيداً، ومؤسساتٍ تتعامل مع التحولات الراهنة بعقلٍ استراتيجي بعيد عن الانفعال.
فالعالم ينظر إلى الكورد اليوم كشريكٍ موثوق، لكن هذه الثقة تحتاج إلى استدامة تُبنى على وحدة الصف، ووضوح الرؤية، واستثمار اللحظة السياسية بذكاء.
إن المرحلة الراهنة تفرض على الكورد مسؤولية تاريخية في ترجمة هذا الاعتراف الدولي إلى مشروعٍ سياسي واقعي ومتوازن.
لقد أصبح واضحاً أن كوردستان لم تعد قضية حدودٍ وجغرافيا، بل قضية قيمٍ وهوية وعدالة.
وإذا كان التاريخ قد أنصف الشعوب التي تمسكت بحقها في الوجود والكرامة، فإن الكورد اليوم يقفون على أعتاب مرحلةٍ جديدة تُكتب فيها سياستهم بلغةٍ جديدة: لغة الشراكة، والكرامة، والسلام.
لقد بدأ زمن الكورد، لا كشعارٍ عاطفي، بل كحقيقةٍ سياسية وإنسانية ترسم ملامح شرقٍ أوسطٍ جديدٍ أكثر عدلاً وإنصافاً.