بدون إرادة سياسية.. لا عدالة للمفقودين في سوريا
المحامي جكر سلو
بعد سقوط النظام البائد، وأثناء دخول العاصمة دمشق، لم يكن يلفت الأنظار سوى صور المفقودين والمختفين قسراً، التي غطّت جدران الأزقة والساحات، وارتفعت على أعمدة الشوارع. صورٌ وضعها الأهالي على أمل العثور على خبر يبدّد حيرتهم، أو جثمان يشيّعونه بكرامة إلى مثواه الأخير.
هذه الصور تحكي قصص رجال وشبّان اعتُقلوا وأُخفوا على خلفية آرائهم السياسية، تاركين وراءهم أبناءً وأحفاداً، وأمهاتٍ وزوجاتٍ، دون أن يرد عنهم أي خبر. وكما وصف الشاعر نزار قباني سوريا بأنها “مزرعة عنترة”، فقد تحولت إلى رمزٍ لمقابر السوريين في ظل عشرات السجون والمعتقلات العلنية والسرية، وحتى الأنفاق والكهوف تحت الأرض.
يُعَدّ ملف المفقودين والمختفين قسراً من أعقد القضايا في سوريا، إذ ما يزال مصير عشرات الآلاف مجهولاً على مستوى التوثيق والمعلومات. ويعلم من يعيش في سوريا دهاليز مؤسساتها أن أرشفة السجلات والوثائق تخضع لتراتبية أمنية وإدارية مغلقة، مما يصعّب الوصول إلى الحقيقة.
لقد أثار المرسوم الرئاسي الصادر في 17 أيار بشأن تشكيل هيئة وطنية للمفقودين وهيئة للعدالة الانتقالية بصيص أمل لدى الأهالي، رغم أن كثيرين في حقبة الأسد الأب والابن تعرضوا لابتزاز مالي بمبالغ طائلة مقابل وعود كاذبة بمعرفة مصير ذويهم.
فملف المفقودين مرتبط بالعدالة الانتقالية، والعدالة الانتقالية جوهرها الإرادة السياسية، وغياب هذه الأخيرة يعني غياب العدالة الانتقالية، وبالتالي بقاء مصير المفقودين مجهولاً. إذ لا يمكن تحقيق العدالة دون الكشف عن مصيرهم، ومحاسبة المسؤولين، وتعويض الضحايا، وتخليد ذكراهم.
وفي هذا الإطار يمكن الاستفادة من تجربة الأرجنتين، التي واجهت في سبعينيات القرن الماضي اختفاء نحو 30 ألف شخص، حيث لعبت “أمهات ساحة مايو” دوراً محورياً في الضغط على السلطات من خلال التظاهر الأسبوعي والمطالبة بكشف الحقيقة، حتى تحقق جزء من العدالة وتمت محاسبة عدد من المسؤولين.
حتى اللحظة، لا تزال ملامح العدالة الانتقالية في سوريا ضبابية، مع غياب آليات واضحة تتيح لجوء الأفراد إلى المحاكم الوطنية بدلاً من الانتقام الفردي أو العدالة الخاصة، وهو ما قد يجر البلاد نحو فوضى وحرب طائفية. وتزداد المخاطر في ظل خطابات الكراهية والنزاعات العشائرية التي تهدد الوحدة الوطنية، خاصة في غياب إعلان دستوري يضمن التعددية والديمقراطية ويحفظ حقوق جميع المكوّنات.
وتشير التقديرات إلى أن عدد المفقودين في سوريا يتجاوز 100 ألف شخص، في ظل غياب محكمة متخصصة بالعدالة الانتقالية تستند إلى معايير القانون الدولي وتصاغ قوانينها وفق توافق وطني، رغم وجود حكومة انتقالية.
إضافة إلى ذلك، هناك جملة من الهواجس التي تواجه مسار العدالة الانتقالية في سوريا، من أبرزها:
-خطر الاقتتال الطائفي الذي بدأت بوادره بالظهور في بعض المناطق.
-اغتيال الشخصيات الفاعلة في ملف العدالة الانتقالية، بما في ذلك الشهود والقضاة.
-زرع الفوضى الأمنية لمنع محاسبة الجناة وتحصين الإفلات من العقاب.
ولا يمكن معالجة ملف المفقودين والمختفين قسراً إلا من خلال عملية انتقالية شاملة، تبدأ بحوار وطني جامع، مروراً بصياغة أو تعديل إعلان دستوري مؤقت، وانتهاءً بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم وفق معايير العدالة الدولية.
أخيراً، إنّ آهات الأمهات ودموعهن التي أنهكها الانتظار، وصرخات العائلات التي دفعت أثماناً باهظة بحثاً عن الحقيقة، تضع على عاتق منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة مسؤولية مضاعفة لضمان أن يبقى ملف المفقودين في صدارة أولويات أي حل سياسي في سوريا.