حكمت تاريخياً على جنوب العراق بأن تكون مركز النهوض الشيعي، بعد منبته على الخلافات السياسية -الشرعية في المدينة، عاصمة الرسول، استغله فقهاء وسياسيي الفرس كمذهب مستقل لمصلحتهم، فقاموا على تقويته وتفعيله، ليس إيماناً به بقدر ما كانت استراتيجية لتحرير ذاتهم قومياً، ولإضعاف هيمنة القبائل العربية البدائية على جغرافيتهم.
وبعد قرون من الزمن، حصروا مراكز التبعية والقيادة ما بين كربلاء التاريخية والقم الحديثة، تتالت انقلابات في مراكز المرجعيات إلى أن انحصرت القوة في أئمة ولاية الفقيه حيث القم كسلطة دينية، وطهران كإدارة تنفيذية سياسية، مع التقديس التاريخي، دون سلطة سياسية، في كربلاء والنجف، ونتجت عنها علاقة اندماجية روحية تاريخية بين جغرافيتين لا تفصل بينهما سوى حدود جيوسياسية، أصبحت شبه وهمية بعد سقوط صدام حسين، رغم اختلاف اللغة، وأعادت الدولتين إلى أمجاد عهد الإمبراطورية الصفوية، وسيادة دولة السامانيين الذين أحييوا العنصر الفارسي ولغتهم، حيث تبعية العراق للفرس، وليس كما كانت عليه خلافة علي بن أبي طالب القصيرة.
لا شك، هذا التلاحم المذهبي، بين شعبين، أدت إلى وحدة الغايات، والطموحات، وهي في معظمها تتقوقع ضمن مد سيطرة قادة الهلال الشيعي، سياسياً، ونشر أفكار المرجعيات الفارسية روحياً، لتجرف بهم إلى القيام بأفعال تتنافى ومفاهيم علي بن طالب(رضي) أو روحانيات الحسين التي ينشرونها. ولله في هذا حكمة لا يتعظ منها قادة الشيعة السياسيين، ولا تبسطها للعامة مرجعياتهم، فتنتشر بينهم الضلالة المنافية لروح السلام المعروفة بها الحسين (رضي). فلو نهض علي بن أبي طالب اليوم وأبنه حسين السبط لقاتلهم ولربما كفرهم وقال فيهم مثلما قال أيام الكوفة والبصرة وما قبل كربلاء.
فالأخلاقيات التي تنتهجها أغلب قادة الحشد الشيعي اليوم، هي من مخلفات ثقافة الحجاج بن يوسف الثقفي، والحسين(رضي) بريء منها ومنهم، وتحفيزهم للقوات العراقية بالتوجه إلى كوردستان وترك داعش في شرق الأنبار، لغايات حقدية سياسية مذهبية وبسند من قادة الشيعة العراقيين اسماً والإيرانيين فعلاً، لاحتلال كركوك وأجزاء أخرى من جغرافية كوردستان، وتحجيم دور الإقليم الفيدرالي تنفيذاً لمخططهم المرسوم لفترة ما بعد الانتهاء من داعش، ومنها احتلال كل العراق شيعياً، ومن ثم إعادة القوة لسلطة بغداد المركزية.
وقد ساعد التشتت الكوردي الذي يجاري خباثة أئمة ولاية الفقيه أو سذاجة بل حقد الدول السنية، على تسهيل مخططهم، والذي يحلمون بأنه سيؤدي إلى صعود الدور الإيراني أو بالأحرى الشيعي في كوردستان، لكن في القادم من الزمن، وعلى الأغلب، ستكون وبالاً على إيران بالتحديد، فيما إذا لم تداركه وتعالج القضية الكوردستانية بأسلوب ديمقراطي.
ورغم أن القضية الكوردستانية بشكل عام من ضمن الحلقات التي اشتغلت عليها إيران طويلاً لطمسها وببطء، استعجلت فيها مؤخراً تحت حجة الاستفتاء، لئلا تنفتح عليها جبهة إضافية، ولتتجاوز مصاعبها الجمة في الدول التي تحتلها، كسوريا واليمن ولبنان والعراق وأفغانستان وغيرها. ورغم تناسي السعودية قبل تركيا مخطط إيران الواضح، في عملية إضعاف دور كوردستان في العراق، الواقعة على حدودها أو ضمن جغرافيتها، وإزاحة الكورد من على ساحة الصراع في هذه المرحلة، مهما كان ثقلهم السياسي –العسكري هزيلا، والتي هي لتحجيم أو تقزيم دورهم في المنطقة، وفتح الأبواب عليهم، ولا يستبعد، من بعد جنوب كوردستان، احتمالية زوال سيادة دولهم، بل وتفتيتهم كجغرافيات، وقد يسأل: ألا تدرك السعودية هذه المعضلة؟ وفي الواقع ليس فقط يعرفونها بل درسوها مع تركيا ولمرات، ووضعوا مع إيران ذاتها ليس فقط تكتيكا بل استراتيجية موحدة لمنع قيام دولة كردستان، لكن الإشكالية الكوردية في الدولتين (تركيا وإيران) تحديداً لها ميزاتها المختلفة، وإيران حتى اللحظة تتحكم بالقضية الكوردية بأساليب أخبث ودبلوماسية أصح فارسياً من تركيا.
وستتبين مستقبلاً أن عملية دعم دول الخليج وتركيا للعراق ظاهراً ولإيران بشكل غير مباشر ضد جنوب كوردستان، كاستراتيجية مشتركة حول مستقبل الكورد، أفشل الاستراتيجيات في المنطقة، مع ذلك استمروا فيها، وحفزوها، وأسقطوا الكثير من المكتسبات الكوردية، وتم حجم دورهم في المنطقة أوضمن حلقات الحروب بالوكالة، ولا زالوا يحاولون للقضاء على مطالبهم المستقبلية. في الوقت الذي كان من أنسب الاستراتيجيات لهم كدول ذات ثقل سياسي ضمن حلقات صراع الدول الكبرى، ولتخفيف حدة الحروب في المنطقة، دعم الإقليم الفيدرالي الكوردستاني، بل وإقامة فيدرالية كوردية في تركيا وسوريا، للحد من مد الهلال الشيعي وسيطرته، وحماية كياناتهم الجيوسياسية ولمراحل زمنية طويلة، وهذا ما لا تريده سلطات هذه الدول الوقوف عندها، خوفا من أن تخسر ذاتها أمام شعوبها الطامحة للحرية مثل الكورد، فحضور القضية القومية الكوردية تدفع بهم إلى التغاضي عن كل خلافاتهم، بل وتنسيهم كل القيم والأخلاق الإنسانية.
فعلى الأغلب، ستعود بوصلة القوى الكبرى المهيمنة على مجريات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، باتجاه القضية الكوردستانية بشكل عام، وجنوب كوردستان، وقريبا جنوب غربي كوردستان سياسياً، وستنتبه الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص إلى عدم فعاليتها أمام السيطرة الروحية للمرجعيات الشيعية على نفوس قادة الشيعة العراقيين، وسيتأكدون من عدم مصداقية حيدر العبادي، وسيدرك استراتيجييهم في الوزارة الخارجية بأنهم أخطأوا في تكتيكهم عند التخلي عن أقرب حلفائهم في المنطقة وأصدقهم، فقط لكسب جانب السلطة المركزية في بغداد، وضمها إلى الحلف السني العربي، وبالتالي ستندم إدارة ترامب على عدم مجارات رأي البنتاغون، خاصة وإننا نلاحظ يوم بعد آخر تصاعد أصوات أقطاب المؤيدين لقيام كوردستان، ولم يكن تصريح وزير خارجية روسيا ما قبل الاستفتاء اعتباطياً، عندما ذكر بأن القضية الكوردستانية ستدرج على طاولة المنظمات العالمية قريباً، وفعلا اليوم طرح مندوب فرنسا الدائم وهو رئيس المجلس الدوري حالياً، مع مندوب السويد اقتراحاً بعرض خلافات أربيل وبغداد على مجلس الأمن، وهذا يعني طرح قضية جنوب كوردستان بل وكوردستان بشكل غير مباشر، وحينها قد تندم البيت الأبيض على فعلتها، وقد تعود إلى تصعيد الدور الكوردستاني، ليس فقط لإعادة مكتسباتها إليها، بل إلى درجة احتمالية طرح مخطط مع روسيا وأوروبا للدفع بقيام دولة كوردستان.
المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر الموقع
التعليقات مغلقة.