مقال للكاتب الاردني والوزير السابق صالح القلاب
في صحيفة الشرق الأوسط ..
مع أن الزعيم مسعود البارزاني قد أكد وكرر التأكيد مرات عدة على أنّ «الاستفتاء» الذي سيجرى في الخامس والعشرين من سبتمبر (أيلول) المقبل لن يعني إعلان إقليم كردستان – العراق دولة كردية مستقلة، فإنَّ هناك من أثار ضجة متصاعدة وعنيفة، وأن هناك من وجه إلى القيادة الكردية في أربيل اتهامات غير صحيحة بقيت توجه إلى هذه القيادة منذ مرحلة الملا مصطفى وحتى الآن وأقلها «العمالة» لإسرائيل والصهيونية، والعياذ بالله، والولايات المتحدة الأميركية!!
والسؤال الذي يجب أن يوجه للمعترضين على أن يقرر هذا الشعب لا بل هذه الأمة مصيرها كشعوب وأمم هذه المنطقة هو: لماذا يا ترى يحرم الأكراد من حقٍّ حصل عليه الأتراك والإيرانيون والعرب أيضاً، وذلك مع أنه كان لهم دورٌ رئيسي وتاريخي في الدفاع عن هذه المنطقة ضد كل الغزاة الذين استهدفوها من المغول إلى الصليبيين (الفرنجة) إلى الاستعمار الغربي الذي فرض نفسه على الشرق الأوسط كله بعد الحرب العالمية الأولى وأيضاً بعد الحرب العالمية الثانية.
صحيح أنَّ تركيا قد خسرت معظم ما كان جزءاً من الدولة العثمانية لكنها بقيت كياناً قومياً ووطنياً للأتراك في هذا الحيز الجغرافي الذي تقوم فوقه الدولة التركية الحالية، وصحيح أنه كان يجب أن تكون للعرب دولة واحدة من المحيط إلى الخليج لكن وجود كل هذه الدول «القُطْرية» التي تجاوز عددها العشرين دولة والتي تنضوي جميعها في إطار الجامعة العربية قد عوض جزءاً من الوجدان العربي الذي بقي متنامياً وضاغطاً على مدى قرون على الوجود الكاسح للعثمانيين الذين فرضوا أنفسهم على كل شعوب وقوميات هذه المنطقة وفي إطار إمبراطورية مترامية الأطراف غابت في ثناياها هذه الشعوب وهذه القوميات وأصبحت جزءاً من القومية الرئيسية في هذه الإمبراطورية التي أصبحت تسيطر على جزءٍ كبير من الكرة الأرضية إنْ في آسيا وإنْ في أوروبا وإنْ في أفريقيا.
وحتى بالنسبة للإيرانيين الذين فقدوا تباعاً دولتهم الصفوية ثم دولتهم القاجارية فإنه بقي لهم كيانهم الوطني والقومي بقيام المملكة البهلوية التي حكمها قبل انهيارها في عام 1979 الشاه الأول محمد رضا خان ثم ابنه رضا خان والتي ابتلعت شعوباً لها حق تقرير المصير مثل الأكراد والعرب والبلوش والبختيار والآذاريين أيضاً وأقليات أخرى كثيرة، والمعروف أن انتصار الثورة الخمينية قد كرس هذه الدولة «جمهورية إيران الإسلامية» كرقم رئيسي في هذه المنطقة، لا بل إنها أصبحت تحتل دولتين عربيتين هما: العراق وسوريا وهذا بالإضافة إلى هيمنتها بـ«الواسطة» على لبنان وعلى بعض اليمن وأيضاً على قطر، وهذا إنْ لم يتدارك القائمون على هذا البلد العربي الأمور ويعودوا إلى رشدهم ويستجيبوا إلى مطالب أشقائهم المحقة في مجلس التعاون الخليجي وخارجه.
إن المقصود من هذا كله أنه غير منطقي أن تكون للعرب دولهم المنضوية كلها في إطار جامعتهم العربية وأن تكون للإيرانيين دولتهم هذه التي غدت حتى بعد حرب الثمانية أعوام تتطلع وبعيداً وراء حدودها وتحتل عملياً دولتين عربيتين وأيضاً أن تكون للأتراك هذه الدولة الكبيرة القوية بينما يحرم الأكراد الذين هم كشعب مكونٌ رئيسي من مكونات هذه المنطقة الشرق أوسطية من أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم وأن تكون لهم دولتهم أو دولهم أسوة بالآخرين وذلك مع أنهم كانوا دائماً وأبداً في طليعة المدافعين عن هذه البلاد إنْ إبان الغزو الصليبي (الفرنجي) وإنً بعده وحتى الآن حتى هذه اللحظة.
وهنا فإننا لا نتحدث فقط عن البطل التاريخي صلاح الدين الأيوبي بل عن الأدوار الرئيسية التي لعبها الأكراد في فلسطين وفي سوريا والعراق وأيضاً في الأردن إنْ قبل استقلال معظم هذه الأقطار وإنْ بعد ذلك مما يعني أنه لا يحق لأي كان أنْ ينكر عليهم أنَّ من حقهم أن يحصلوا على ما حصل عليه أشقاؤهم العرب والأتراك والإيرانيون فهذا ظلم ما بعده ظلم والمثل يقول: إن من شارك في معارك بذل الدماء الزكية من حقه أن يحصل على ما حصل عليه الذين شاركوهم في هذه المعارك.
وحقيقة، وهذه حقيقة من المفترض أنها معروفة للآخرين العرب والأتراك والإيرانيين، أنَّ الأكراد وحدهم قد دفعوا الثمن غالياً في لعبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى وفي اتفاقيات سايكس – بيكو الشهيرة، فالآخرون أخذوا ولو الحدود الدنيا من حقوقهم وبقوا هُمْ وأشقاؤهم الفلسطينيون يدفعون ثمن كل هذا الظلم التاريخي الذي لحق بهذه المنطقة التي لا تزال مبتلية بالتسلط الغربي وإنً بأشكال جديدة غير الأشكال الاستعمارية السابقة.
ثم إن ما يجب أن يقال وبكل وضوح وصراحة إن مشكلة إخواننا الأكراد، رفاق المسيرة الصعبة الطويلة، ليست مع العرب على الإطلاق، إذْ إن حتى العراقيين غير التابعين لإيران مع أنْ تكون لهم دولتهم في كردستان – العراق وعلى أساس التفاهم على حدود هذه الدولة وعلى علاقاتها بالعاصمة بغداد وذلك في حين أن الأتراك والإيرانيين لا يعترفون بوجود شعب كردي ولا أمة كردية، وهنا فإنه لا بد من أنْ نشير إلى أن مسؤولاً إيرانياً كبيراً سابقاً قد أنكر خلال نقاش ساخن معه قبل أقل من أسبوع وجود أكراد في بلاده وهذا ما يقوله الأتراك أيضاً الذين يعتبرون أن كُرْد بلادهم أتراك الجبل أو الجبال.
وهكذا فإن ما تجب الإشارة إليه هو أن أول دولة كردية في التاريخ كله هي دولة «مهاباد» التي قامت في عام 1946 في كردستان الإيرانية وأنَّ إنكار الوجود الكردي لا يعني أنهم غير موجودين وأنهم ليسوا مكوناً رئيسياً من مكونات هذه المنطقة وأنهم إذا كانوا قد ظلموا خلال المائة عام الماضية فإنه غير جائز أن يستمر هذا الظلم… ويبقى أنه لا بد من أن يدرك هؤلاء «الأشقاء» فعلاً مخاطر أن يبقوا «بنادق» و«أدوات» في أيدي الآخرين… وعلى غرار ما كان عليه حزب العمال الكردستاني الـ«p.k.k»، بقيادة عبد الله أوجلان، الذي كان قد استخدم كأداة روسية وأيضاً سورية ولا يزال فالأخطر على هذا الشعب أن يبقى بعضه يستخدم كأدوات في أيدي بعض الدول الكبرى وبعض دول هذه المنطقة وفي الصراعات الدولية والصراعات الإقليمية… وهنا فأغلب الظن أنه غير صحيح أن الوفد الكردي الذي زار طهران قبل أيام قليلة قد قال لكبار المسؤولين الإيرانيين الذين التقاهم إن «الاستفتاء» المزمع ليس ضدهم وإنما ضد العراق الذي قد يوجه جيشه في اتجاههم بمجرد انتهاء حربه مع تنظيم داعش الإرهابي… والله أعلم.
كما أنه تجب الإشارة كذلك إلى أنَّه على قيادة كردستان العراق أن تتجنب المناطق الإشكالية التي تعتبر مناطق «متنازعاً عليها» سواء بالنسبة لاستفتاء الخامس والعشرين من سبتمبر المقبل أو بعده، فهذا سيجعل حتى غير التابعين لإيران في هذه «التركيبة» العراقية الحالية يقفون ضدهم وسيجعل الشعب العراقي بمعظمه يعتبر أي خطوة من هذا القبيل بمثابة خطوة «انفصالية» وتقسيم لبلدهم!!
ولعل ما يؤكد أن إيران تسعى ومنذ الآن لافتعال مواجهة عسكرية بين بغداد وبين إقليم كردستان العراقية في حال لجوء أربيل إلى إجراء الاستفتاء الآنف الذكر، أن وكالة «فارس» الإيرانية الحكومية قد نسبت زوراً وبهتاناً إلى وزير الدفاع العراقي عرفان الحيالي قوله «إننا لن نسمح بتقسيم العراق ولن نسمح بقيام دولة كردية».
في كل الأحوال إنَّ الواضح لا بل إن المؤكد أن هذا الاستفتاء المرتقب المشار إليه لا يعني أن يتبعه إعلان دولة إقليم كردستان العراق لا فوراً ولا في المستقبل القريب، فهذا تطور لا يمكن أن تسكت عنه لا إيران ولا تركيا وهو يحتاج قبل الإقدام عليه إلى تأييد دولي في طليعته الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية ومعظم الدول الأوروبية الكبرى، وقبل هذا وذاك تفاهم قيادة هذا الإقليم مع الكثير من الدول العربية المعنية.
التعليقات مغلقة.