السوريون من حلم الحرية إلى تأمين لقمة العيش
عز الدين ملا
الأزمة السورية التي طالت لأكثر من أحد عشر عاماً، غيرت من تصور السوريين لعدة مرات وعلى مدى هذه السنوات الطويلة، في حين كانت تصور السوريين جميعاً بدون استثناء في بداية المشكل السوري، هو العيش ضمن دولة تؤمن جميع الحقوق ولكافة المكونات السورية، ولكن تطويل الأزمة وتعدد الأيادي الداخلة والمتداخلة في الشأن السوري زاد من تعقيدها، بل عقَّد من فرص الاسراع في الوصول إلى الحل السياسي وبناء سوريا تضم الجميع ضمن مظلة الوطن للجميع.
الآن يتغير تصور السوريين من منطقة إلى أخرى، والتصور الموحد هو تأمين لقمة العيش والعيش الكريم، هذا تصور السوريين جميعاً ويتوحدون عليها، لأن الأزمة الاقتصادية أثقل كاهل المواطن السوري وفي كل مكان.
وأكثر من يدفعون ضريبة الصراع هم الكُرد في عفرين وسري كانية وكري سبي، هذا لا يعني أن غير الكُردي لا يدفع الضريبة ولكن الكُرد أكثر من يدفع من خلال استغلال تلك الفصائل وتر الطائفية من أجل التأليب بين العرب والكُرد، ويستمرّون في السيطرة على هذا المنوال.
تصورات المواطنين السوريين تتوحد في إنهاء الصراع بأي شكل من الأشكال وتحقيق نوع من الاستقرار الاقتصادي والأمني والعيش الكريم، النازحون همهم في تلك المناطق البقاء على الوضع الراهن خوفاً من نزوح جديد، أما العرب الأصلاء في تلك المنطقة يتمنون الانتقال إلى الحل السياسي والخلاص من توترات تلك الفصائل وإنهاء ما هو مسلح. والكُرد في عفرين وسري كانية وكري سبي همّهم الصبر وتحمل المتاعب إلى أن يتم تحقيق توافق دولي حول ماهية مصيرهم.
أما المناطق التي هي تابعة للإدارة الذاتية، هي مناطقة واسعة تضم كافة المكوّنات السورية، والسوريين هناك في حالة الرعب وعدم الاستقرار لعدم وضوح الرؤية لمستقبلهم وخاصة التهديدات المتكررة من جانب تركيا باجتياح جديد. ومن جهة أخرى العودة إلى حضن النظام السوري، يعني هم أمام أمرين أحلاهما مرّ.
السوريون ونتيجة الصراعات بين الجماعات المتخلفة على الأرض السورية من جهة، والصراع بين الأطراف الدولية ذات الشأن بالملف السوري من جهة ثانية، أحدث خللاً في التعايش بسلام بين كافة المكونات، والخوف من أن أي مكون يستلم زمام الأمور أن يستغلّ الحكم لتنفيذ الثأر والانتقام، والتصور الأنجع والأنجح لتحقيق الاستقرار والأمان وما يجمع عليه كافة مكونات السورية عدا العقلية المتشددة والعنصرية، أن الحل هو سوريا اتحادية تعددية لا مركزية، هكذا يضمن الجميع ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات.
وباعتقادي، إن الأزمة السورية غيّرت الكثير من المفاهيم وخاصة ما يتعلق بتصوراتهم المستقبلية، في وقت كان معظم السوريين مطلبهم تغيير النظام وبقاء سوريا موحدة، ولكن الآن وبعد تلك السنوات التي نال السوريون مختلف الويلات والعذابات، وحصول شرخ بين التنوع الفسيفساء السوري، نتيجة تلك العقلية العنصرية والشوفينية التي تم غرسها من قبل النظام في عقول السوريين خلال عقود سيطرته على الحكم.
الكُرد، الذين تعرضوا خلال عقود حكم النظام لممارسات وأساليب تمييزية والشوفينية وطبقت بحقهم الإحصاء الجائر والحزام العربي، ورغم ذلك كانوا السباقين إلى مد يد الإخوة لبقية مكونات الشعب السوري، في بداية الثورة وقفوا إلى جانب السلم والأمان، وخلال سنوات الأزمة فتح الكُرد أحضانهم للنازحين والمهجرين من ديارهم وكانوا العون في محنتهم رغم معاناة الكُرد الكثيرة لم يبخلوا بمساعدة السوريين الذين نزحوا من مناطقهم.
الكُرد الآن أما مفترق طرق، التخوف من اجتياح تركي لمناطقهم، والثاني العودة إلى النظام، يعني أن مصيرهم مجهول. طبعاً، الكُرد لهم الحق بالعيش كغيرهم من السوريين دون تمييز، لذلك ما يراه الكُرد أن الحل الصائب للمشكلة السوري هو بناء دولة فيدرالية لا مركزية تستوعب الجميع دون هضم حقوق أحد. وأرى، أن كل دولة ترى راية السلام حسب مصلحتها، وهنا ما يُفرِّق بين الجهات الفاعلة لتحقيق الاستقرار وانهاء الأزمة السورية. وما لاحظناه أن رايات السلام تغيرت كثيراً عما كانت عليه في بداية الأزمة، في البداية كان الجميع متفق على إسقاط النظام والإتيان بنظام ديمقراطي تعددي اتحادي لا مركزي، ولكن مصلحة بعض الدول لم تكن تريد ذلك، فتحول من إسقاط إلى مفاوضات عن طريق قرار دولي 2254، وتطبيق السلال الأربعة، ولكن المعارضة المشتتة وتحول ساحة سوريا مرتعاً للجماعات الراديكالية والجهادية والإسلامية والإرهابية ودخول روسيا على الخط إلى جانب النظام غيرت كافة الموازين. في وقت كانت أكثر من سبعين دولة وتحت مسمى أصدقاء الشعب السوري يقفون إلى جانب إسقاط النظام وتشكيل نظام جديد يُقابل الرؤى السورية.
هذه التصورات السورية إلى جانب رؤى ومصالح الدول الداخلة والمتداخلة في المستنقع السوري. فإيران، التي دخلت المشكل السوري منذ البداية ووقفت إلى جانب النظام بقوة وأدخلت ميليشياتها من الحرس الثوري وحزب الله اللبناني ولواء الفاطميون، وكل ذلك من أجل منع إسقاط النظام ولتنفيذ مشروعها الهلال الشيعي، هي ترى أنه يجب على النظام العودة إلى مربعه الأول، وهذا لا يخدم مشروع استقرار سوريا.
تركيا، التي رأت في سوريا فسحة لتنفيذ طموحاتها، وفتحت حدودها لدخول الجهاديين المتشددين، وترى أن السلام من منظورها هو دخول 30 كم في عمق الحدود السوري لحماية أمنها القومي حسب زعمها.
روسيا، التي رأت أن حفاظها على قواعدها في الساحل السوري هو نقطة انطلاق نحو أفريقيا وشرق أوسط، عززت من قوة وجودها في سوريا وأسست مطار حميميم، والسلام من منظورها هو بقاء النظام على ما هو عليه وعودة كل شيء إلى ما كانت قبل الأزمة.
الولايات المتحدة الأمريكية، شرّعت وجودها في سوريا من خلال محاربة الإرهاب، ووجودها في المنطقة يبعث الأمان والاستقرار بين السوريين وخاصة الكُرد. ولكن عدم الوضوح في سياستها يرعب السوريين، وكذلك التخوف من مغادرة أمريكا للمنطقة ما يعطي المجال لعودة النظام وتنفيذ انتقاماته من جهة وقيام كل من تركيا وإيران وروسيا من تنفيذ سياسات انتقامية أيضا بحق الشعب السوري وخاصة الكُرد. ووجود الأمريكي في سوريا عامل ارتياح، ولكن عدم جعل الولايات المتحدة الأمريكية سياستها في سوريا من أولوياتها يبعث الخوف أكثر لدى السوريين. التحالف الغربي يرى ما ترى الولايات المتحدة الأمريكية.
وما الاستمرار في الأزمة السورية سوى أن الإرادات الدولية والإقليمية لا تريد إنهاءه، وخاصة بعد أن ظهرت الحرب الروسية الأوكرانية إلى الواجهة، جعلت جميع أنظار العالم تتجه نحو تلك الحرب، أما سوريا أصبحت ساحة مناورات ومقايضات بين الجهات الفاعلة، جميع السوريين يريدون إنهاء الأزمة السورية بأي شكل من الأشكال، عدا الجماعات الإرهابية التي ترى في استمرار الأزمة ضمان لبقائها، والالتقاء بين الجهات الفاعلة السورية مع الخطابات الدول والإقليمية تبدأ وتضمن كل جهة نفوذها ومصلحتها، لذلك الحل السياسي هو الحل الذي يرسي على بناء سوريا ذات شكل ولايات أو فيدراليات ولكل دولة نفوذ ومصلحة مع جهة معينة.
وكما اعتقد أيضاً، أن الوضع السوري بعد أن اتجه قرار الحل إلى فضاء منظمة الأمم المتحدة واصدرها لعدة قرارات ذات الشأن بالملف السوري وخاصة القرار 2254 للوصول إلى الحل السياسي وانهاء الأزمة من خلال السلال الأربعة، والتي تبدأ بتشكيل حكم انتقالي، وما المفاوضات بين الطرفين السوريين، وفد المعارضة ووفد النظام، سوى الطريق إلى انهاء ما هو عسكري والانتقال إلى الحل السياسي والبدء بترتيباته، ولكن الالتفاف الذي نجح كل من روسيا وتركيا وإيران بتحقيقه من خلال مسارات أستانا وسوتشي إلا وهي تنفيذ لأجنداتها وذلك بتعويم النظام السوري، وفرض إملاءاتهم، وكانت إحدى مخرجاتها مناطق خفض التصعيد، وإضعاف تدريجي للمعارضة وتجميعها في نطاق ضيق، ومن المخرجات الأخرى من تلك المسارات هي الاحتلالات التركية لمناطق عدة في المناطق الشمالية لسورية انطلاقاً من إعزاز وباب ومرورا بعفرين وليس انتهاءً في سري كانية ورأس العين، وما زال الطريق مفتوحاً أمام التفافات أطراف أستانا وسوتشي، على حساب عذابات الشعب السوري. وكانت انطلاق اجتماعات اللجنة الدستورية إحدى مسارات أستانا وسوتشي والقفز فوق السلال الثلاثة الأولى، من أجل إهدار الوقت وتقوية موقف النظام على حساب المعارضة المشتتة وغير واضحة الموقف.
في النهاية أقول، دائماً هناك بصيص أمل، وما المفاوضات سوى هذا البصيص، والالتقاء بين الآراء والمواقف ممكن، وذلك من خلال المقايضة والتبادل، ومن الممكن أيضاً التداخل في مواقف بعض الدول من خلال التوافق على صيغ معينة يضمن مناطق نفوذ الجميع وعدم التضارب في مصالحهم، ومن خلال ذلك ضمان تحقيق هامش من الاستقرار السياسي والاقتصادي والمعيشي للشعب السوري، والبدء بمرحلة البناء.
التعليقات مغلقة.