الشعب السوري يمر بمرحلة صعبة وخاصة بعد تحوّل الأزمة من حرب عسكرية إلى حرب اقتصادية ومحاربة دخل الفرد ومعيشته بدل أن تتحول إلى حلٍ سياسي. وما يحزّ في النفس أنه ليس في أيدينا -نحن السوريين- حيلة سوى أننا نحصي سنوات الأزمة السورية، وبهذا العام قد مضى أحد عشر عاماً على المأساة دون أي بوادر أمل تلوح في الأفق. ماذا بعد؟ سؤال يطرحه المواطن السوري بعد كل هذه السنوات من المعاناة التي لم يشهدها أي شعب على يد من كان لا بد أن يكون مصدر الأمن والأمان وليس مصدر إرهاب وتسلّط.
عند اندلاع الثورة السورية، في الخامس عشر من آذار 2011، من أجل الحرية وإنهاء العبودية التي استمرت لعقود طويلة، ولإعادة كرامة المواطن السوري، ولكن بعد مضي تلك السنوات نال خلالها السوريون أقسى أنواع الظلم والقهر من قتل وتدمير وتشريد، حتى لم يبقَ حجر على حجر. الآن، أن نعود إلى ذاك المربع الذي انطلقت الثورة منه، فهذا شيء لا يقبله العقل ولا الضمير الإنساني.
شعبٌ عاش ويعيش بأرواح متعبة وأجساد متهالكة، وقلوب ملؤها آمال لِما ستجنيه الأيام والشهور القادمة من مفاجآت، والتمني أن تكون تلك المفاجآت فيها بعض الهناء، وأن تحفظ ما تبقى من كرامتهم وشيمهم، ودون التفكير بالسنوات القادمة، فذلك لم يبقِ لها احتمال.
كل ما يحصل ليس من فراغ، بل هو من صنع أيدينا وتمسكنا بالأفكار البالية التي لا تغني ولا تسمن عن النفس، بل تزيدنا معاناة فوق ما نمرُّ به.
أليس من الحكمة والمنطق أن نبحث عن حلول لمعاناتنا عوضاً عن الاتهامات الموجّهة بالعمالة والتنظيرات التخوينية والتعصبية والتهميشية، والتمسك بالقشور وترك اللب والجوهر؟ تلك القشور التي تمّ زرعها في عقولنا من خلال تلك الأفكار المقيتة وإنكار الآخر التي لم تكن موجودة عندما وجدت الدولة السورية، بل وجدت وظهرت خلال الخمسين سنة الماضية، غرسها النظام ليهيمن على مقدرات البلاد ونحن نلهو ببعضنا البعض حتى لا يتيح لنا التفكير بمن نهب وسلب وجعل من سوريا مزرعة له.
لكي نخرج من هذا المستنقع المرعب أكثر قوة ومناعة علينا أن نحرر عقولنا وأفكارنا قبل أي شيء آخر، وعدم التركيز على وضع كلمة هنا وآخرى هناك في العناوين الأساسية، كما يفعل البعض في حشر كلمة العربية ضمن الجمهورية السورية، وما يخرج من مواقف بين الفينة والأخرى إن كانت من المعارضة أو إن كانت من النظام، كلها تدور عن الإقصاء والتهميش للمكونات الأخرى، من هم شركاء في الأرض والعرض من خلال هذه المصطلحات، وكما يقال الوعاء الكبير يستوعب الوعاء الصغير، وهذا ما على الساسة العرب السوريين الوقوف عليه لأنهم المكون الأكبر، هم من عليهم أن يستوعبوا المكونات الأخرى وتخوفهم من المستقبل لأن الماضي كان تجربة قاسية لهم.
هذه الأفكار المقيتة التي جُبِلَتْ في عقول السوريين، وغُرِسَتْ النزعة الطائفية في ثنايا العلاقات الاجتماعية، منذ أن استلم النظام الأسدي الحكم في سوريا، وخاصة بما يتعلق في علاقة الآخر مع أخيه الكوردي، كما واجتهد على رفد تلك الأفكار عن طريق اتهامات ضد الكورد بأنهم يترقبون الفرصة للانفصال أو الانقضاض.
تلك الاتهامات غُرِّر بها معظم السوريين، مما شكّل جداراً من التنافر بين المكونين العربي والكوردي، علماً أن ذاك الكوردي خدم وطنه سوريا لا نقول أكثر من العربي، على الأقل بالتوازي معه، هو لم يفكر أبداً بالغدر بل كان السند والدعامة لأخيه العربي.
بالرجوع إلى الفترات التي تسبق اعتلاء آل الأسد الحكم، عندما كانت سوريا تحت اسم الجمهورية السورية، كانت الديمقراطية في قمة أوجها، لم تكن هناك نزعات أو أفكار طائفية وقومية، بل كان التلاحم والتكاتف بين السوريين السِّمة الأبرز لتلك المرحلة، وكما يشير إليه الإسلام أن التوافق والتعاون والتلاحم قوة وبركة، لذا كانت الليرة السورية ذاك الوقت تعادل ثلاثة دولارات، هذه القوة للعملة السورية جعلت من العمالة والسواح الأجانب يتوافدون للسياحة والعمل.
وبالرجوع أكثر، كان الكوردي من السبَّاقين في الدفاع عن وطنه سوريا، ظهرت شخصيات كوردية عديدة دفعوا دماءهم في سبيل تراب وكرامة سوريا، كـ يوسف العظمة وإبراهيم هنانو وحسن الخراط، والعديد بذلوا الغالي والنفيس دفاعاً عن أرضهم.
بالعودة قليلاً، عندما تم تشكيل حكومة للجمهورية السورية بعد جلاء الفرنسي، انتخب محمد علي عابد رئيساً، وكان أول رئيس، وهو كوردي القومية، ومن ثم توالى الرؤساء، أديب الشيشكلي وحسني الزعيم وغيرهم. تلك كانت أيام العزّ والرفاه، وكانت مدينة دمشق من أرقى مدن العالم، ومستوى دخل الفرد كان من أعلى المعدلات على مستوى العالم وكذلك التصنيف السوري في ذاك الوقت كان على لائحة الدول المتقدمة.
ولكن بعد أن تحولت سوريا إلى الجمهورية العربية السورية، تراجعت الليرة السورية، والتصنيف السوري على مستوى العالم تراجع إلى الذيل، ودخل الفرد المواطن السوري حدث ولا حرج تراجع 100%، هنا بدأ التمييز وظهرت العبارات، هذا كوردي وذاك عربي، درزي، علوي، سني وذاك شيعي وآشوري وسرياني، هذه المصطلحات لم تكن موجودة قبل ذلك، وكانت هذه الفسيفساء سبب القوة الاستقرار والرفاه.
هنا نتساءل.. لماذا وصلنا إلى ما نحن عليه؟ أليس من الأجدر البحث عن الأسباب بدل المطالبة بالعودة إلى المربع الأول، مربع التمييز والإنكار؟
ألم يخرج السوري قبل أحد عشر عاماً من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية؟ أليست تلك الحرية هي تحرير من الأفكار والنزعات المقيتة كي نتحرر من آثار وجذور تلك السلطة التي أطبقت على رقاب الشعب عقوداً عديدة؟ نعلم جميعاً إن تحررنا من تلك الترهات العصبية والعنصرية سنتحرر من هذا النظام التي خرجنا جميعاً في ثورة ضده.
عليه، يتطلب من الجميع تصفية القلوب وفتح قنوات من التسامح والمحبة والتواصل والتعاون بين جميع المكونات السورية، ونقوم برمي كافة الأفكار التي تبعث الكره والحقد وراء ظهورنا. هكذا نستطيع العودة بوطننا سوريا الحبيبة إلى سابق رونقها وبهائها ونموها وتطورها، يجد كل مواطن حياة كريمة تليق به كـ سوري.
سوريا للجميع، لذا من الأجدر البحث عن سُبل العيش المشترك دون تمييز، والعمل يداً واحدة على لملمة الجراح والسير إلى بر الأمان، ليعيش جميع السوريين، عرباً وكورداً وآشوراً وسرياناً، في سوريا المستقبل، اتحادية تعددية ديمقراطية لا مركزية.
التعليقات مغلقة.