احتاجت روسيا والدول الضامنة لاتفاق المناطق الأربع الموقع في “أستانة 4” إلى ثلاثة أسابيع كاملة قبل البدء برسم حدود هذه المناطق، ما أتاح للنظام الأسدي اختراق الهدنة التي بدأت في 6 مايو (أيار) الجاري، عبر التهجير السكاني الممنهج، والمترافق مع القصف والمعارك التي لم تتوقف في حماة ودرعا.
وبالفعل، بدأ خبراء من الدول الضامنة الثلاث، روسيا وإيران وتركيا، برسم الخرائط في عمَّان، دون استشارة الفصائل المشاركة في أستانة، وعلى الرغم من انسحاب بعض ممثلي تلك الفصائل، وإعلان الهيئة العليا للمفاوضات أن الاتفاق “غير شرعي”، ووصفه بأنه “مشروع تقسيم” لسوريا.
ووفق وزير الخارجية الروسية، ميخائيل بوغدانوف، في حديث لوكالة “نوفوستي” الروسية (25 مايو/ أيار)، فإن ترسيم حدود “مناطق تخفيف التصعيد” سيضمن وجود “نقاط عبور للمواطنين” بين كل من المناطق الأربع والمناطق المشاطئة لها في الأرض.
وهذا يفسر ما قاله لوكالة “سمارت” مصدر في “جيش النصر”، التابع للجيش السوري الحر، من أن قوات تابعة للنظام أنشأت سواتر ترابية مرتفعة في ريف حماة الشمالي، وريف حماة الشمالي الغربي، حيث أكد المصدر أن الغاية من هذه السواتر هي فصل المناطق، كونها غير مجدية دفاعياً.
وبالعودة إلى تصريح سابق لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يوم 12 مايو (أيار) الجاري، أشار فيه إلى أن بلاده ترحب بنشر مراقبين أمريكيين في سوريا، ضمن اتفاق “مناطق تخفيف التوتر”، نجد أن الشراكة الأمريكية الروسية رسمية، وليست مجرد تنسيق للتحركات. لكن دون أن يعني ذلك أن أمريكا أصبحت رابع عضو في ضامني اتفاق المناطق الأربع. مع ذلك، يبدو أن أمريكا تأمن جانب روسيا، وجانب تركيا، دون إيران، بدليل الضربة الجوية التي وجهتها لـ”ميليشيات تابعة لإيران” كانت في طريقها إلى معبر التنف على الحدود العراقية السورية وقرب الحدود المشتركة للدولتين مع الأردن.
وعبرت اللهجة الأمريكية خلال التعليق على تلك الضربة، ومكانها، أن “الاشتباك جرى في مكان متفق على أنه منطقة عدم اشتباك”. بالطبع، لا يمكن توقع أن منطقة “عدم الاشتباك” هذه جرى التفاهم عليها بين أمريكا وإيران، بل بين أمريكا وروسيا.
وفق هذا المنطق، تُعَدُّ كل من روسيا وأمريكا وإيران والنظام الأسدي والميليشيات الشيعية حلفاء في قتال داعش و”هيئة تحرير الشام (النصرة)”، لكن الأصل أنهم متنافسون، ولكل منهم أهداف خاصة حتى داخل كل حلف بين كل اثنين، أو أكثر، منهم.
فبعد ساعات من القصف الأمريكي للميليشيات الشيعية في الطريق إلى التنف، تقدمت قوات النظام الأسدي على مسافة ثلاثين كيلومتراً من معبر التنف، وسيطرت على الكتيبة المهجورة، بتفهم أمريكي روسي جعل أمريكا تأمر فصائل مدعومة من البنتاغون بإخلاء مواقع على الطريق المؤدي إلى المعبر.
التراخي الأمريكي، هنا، قد يبدو انتصاراً للفكرة الروسية التي ترى أن هذه المنطقة تابعة للنفوذ الروسي، لكن التكتيك الأمريكي يقايض ما لدى أمريكا مع ما ستتفق عليه موسكو وواشنطن في المنطقة الآمنة في درعا، مقابل مكسب روسي “عظيم” في سيطرة النظام على منطقة “كرفانات”، أو “محارس” في أرض صحراء محمية ومراقبة أمريكياً من الجانب الأردني. فمن شرق درعا في اتجاه كامل الحدود السورية الأردنية، وصولاً إلى التنف، والبوكمال، على الحدود العراقية السورية، أصبح واقع الأرض كاملاً بيد أمريكا، ما يعني محاولة حقيقية للفصل بين مناطق السيطرة الإيرانية في بغداد وغربها في اتجاه المناطق التي يسيطر عليها داعش حالياً في غرب العراق، أي أن التعايش الأمريكي الإيراني المضطر في العراق غير مرغوب فيه أمريكياً في شرق سوريا، وصولاً إلى جنوب سوريا، والجولان في القنيطرة مما يحاذي “إسرائيل”. وهذا لا يستبعد وجود تفاهمات روسية – أمريكية تحول دون إنجاز مثل هذا الخط الإيراني الواصل بين “بغداد الإيرانية” و”دمشق الأسدية”، عبر حمص، أو عبر دمشق نفسها، في اتجاه الساحل السوري، وفي اتجاه لبنان.
ففي هذه المنطقة الصحراوية، يحتل داعش قلب التسابق الروسي الأمريكي للسيطرة على ما بين الأنبار وتدمر، فما يلي الحدود الأردنية يقع خارج قدرة داعش على الحركة، وما يتصل بديرالزور والبوكمال يتحكم به التنظيم. بينما تكتفي أمريكا بالسيطرة الجوية دعماً لحلفائها من الجيش الحر، دون تأثير حاسم على منطقة “البدر الشيعي” التي يطمح إليها قيس الخزعلي، لتكتفي روسيا بالسياسة سلاحاً لفسح المجال لحلفائها، قوات النظام، والميليشيات الإيرانية، كي تحاول أن تكون قريبة من حدود ذلك “البدر الشيعي”.
قد يفسَّر هذا التقاسم الروسي الأمريكي بتفاهم بين العاصمتين لتأجيل الصدام بين داعش وإيران وحليفها الأسدي، كون روسيا لن ترغب بوجود إيران في سوريا إلى النهاية. لكن الوقائع تشير منذ بدايات عام 2014 إلى حرص كل من داعش وإيران إلى عدم استعجال الصدام بينهما كـ”عدوين” متطرفين، هذا إن كان في نيتهما التصادم أصلاً. والشك في علاقة “العدوين” بدأ منذ لحظة ولادة التنظيم، وصولاً إلى عدم استهداف داعش لأي مصالح إيرانية في إيران، أو خارجها، في الوقت الذي وصلت فيه أصابع التنظيم إلى قلب أوروبا غير الضالعة في الحرب على سوريا بقدر تورط إيران فيها.
وقد يذهب التحليل حتى إلى الإقرار بعدم استعجال أمريكا استخدام عناصر قوتها ضد روسيا، كون الأخيرة توظف النظام الأسدي، وإيران، والأخيران يوظفان الميليشيات، والمرتزقة، لمواجهة داعش. ما يعني أن أمريكا، منفردة، أو بالتفاهم مع حلفائها، تستنزف سياسة وسلاح روسيا وحلفائها، في انتظار أن تنتهي الحرب على سوريا بصدام روسيا وحلفائها مع داعش، خاصة أن منطقة نفوذ القوات الكردية المدعومة من أمريكا ستنتهي عند الحدود الجنوبية للرقة، وعندها ستنتشر فلول داعش في المنطقة ما بين شرق حمص وتدمر وديرالزور، خارج المنطقة الآمنة في جنوب سوريا، التي تتفاهم عليها الآن أمريكا مع روسيا في عمَّان.
المصدر=وكالات
التعليقات مغلقة.