ماذا حل بالأدب الكوردي بعد الإسلام الجزء الرابع عشر..
د. محمود عباس..
طال التحريف والتعتيم والنهب، ليس فقط الأدب الكوردي، بل فنونهم وروحانياتهم. فالأولى، يشهد عليها أبن وحشية في كتابه (شوق المستهام في معرفة الأقلام) في القرن التاسع الميلادي؛ والذي حسب قوله قام بترجمة العديد من الكتب الكوردية إلى العربية، كما وينوه إلى القلم الذي كان الكورد يكتبون به رموز كتاباتهم أي أحرفهم، وهذه تؤكد على أن مجموعة الكتب تلك؛ هي من ضمن الذخيرة الثقافية المستندة عليها الحضارة الساسانية، وتعكس على أن اللغة والحروف المكتوبة بها هذه الكتب كانت لغة الدولة ودواوينها، وأبن وحشية ينسبها بشكل مباشر إلى اللغة الكوردية.
إلى جانب ما حل بتراثهم المنهوب، تحت ما يسمى بتداخل الثقافات، تم سرقة الكثير من أفرع فنونهم، ومفاهيم روحانياتهم بعدما هدمت معابد أديانهم، وحظرت ثقافتهم المكتوبة تحت صيغ فقهيه عدة،
منها، أنها كتب تدعوا إلى الكفر، وبعد قرون عدة نسبت السلطات المحتلة لكوردستان كل هذا التراث الأدبي والفني لشعوبها.
فقد بنت الإمبراطورية العثمانية والشعب التركي فنهم الحاضر الذي نسمعه على ركائز الفن الكوردي، ومثلها الكثير من جوانب الفن العربي، خاصة في بدايات الخلافة العباسية، وقد نوهنا إليها سابقا.
فكما نعلم أن الفن التركي والتركماني ينتميان إلى عائلة الفنون والموسيقى ذات الوتر الواحد، والصوت الخافت، وهي من عائلة الفنون الصينية المنغولية، وكذلك أشكال آلات العزف، وغنائهم ورقصاتهم المنتسبة إلى عائلة شعوب العرق الأصفر،
ولكن الملاحظ اليوم غياب فنهم القديم بين الجمهور التركي، باستثناء حضور خجول وفي مناسبات قومية ضيقة، أو في الريف التركي، والذين بينه وبين المتشعب والدارج الآن بعدا وشرخا شاسعا.
وما يساق على الساحة اليوم جلها فنون مسروقة من الشعب الكوردي وبعضها من الشعوب الأخرى المجاورة كاللاظ واليوناني والبلغاري وغيرهم،
وهي تشبه ما تم من خلط الجينات ليظهر الإنسان التركي بسمات مختلفة عن عروقه الأصيلة، إلى درجة يقال أنه لا يوجد إلا نسبة ديمغرافية ضئيلة من الأتراك في تركيا، بل هم أقلية فيها، فكما نعلم أن الشعب التركي من شعوب العرق الأصفر-الصينية، من حيث الملامح وشكل الوجه والقامة، وتركيبة الجسم، لكن الموجود اليوم حيث العيون الزرق، وطول القامة، وبياض الوجه وغيرها من المميزات، لا علاقة للشعب التركي به، وقد أصبح خارج أصوله مثله مثل فنه الحاضر، ويمكن القول أنه أصبح شعب خليط يحمل ثقافة الشعوب المتكونة منها تركيا والمجاورة لها، وعلى أثرها درج على أن كل من يتكلم التركية تركي.
وعلى هذا النمط يستسقى الشعب العربي، خارج شبه الجزيرة العربية، ونعني الشعوب المستعربة.
ولربما يدرج تحت هذه السمات؛ ساكني شبه الجزيرة العربية، فكما نعلم من التاريخ، بعد الغزوات الإسلامية العربية، أن نسبة كبيرة ينتسبون إلى أجيال سبايا شعوب الإمبراطوريات الساسانية والبيزنطية، والقبطية وشمال أفريقيا، وغيرهم، الذين تجاوز عددهم عدد العرب، الذين حملوا معهم الكثير من ثقافة وآداب وفنون شعوبهم.
كما وأن الشعب الفارسي يعد من أكثر الشعوب التي كان سهلا له نهب آداب وتاريخ وحضارة الشعب الكوردي والاستيلاء على مخلفات حضاراته، للخلفية التاريخية اللغوية والعرقية المتقاربة بين الشعبين، ولاشتراكهما في تكوين معظم الحضارات التي تنتسب إلى الفرس دون الكورد.
ليتنا نحن شعوب الشرق اقتنعنا بمنطق ومنهجية تداخل الشعوب، وعدم التمييز بينهم من حيث اللغة، وتمكنا من وضع الحدود للأنظمة والسلطات ذات الأبعاد العرقية، وبنينا الأوطان على منطق التداخل الثقافي.
وبناء على المؤشرات التاريخية، تتبين أن الحضور الكوردي حتى ولو كانت بشكل فتات ناجية من التحريفات والتدمير الممنهج، كانوا أكثر الشعوب في المنطقة حفاظا على خواصه الجينية، ومثلها على فنه وأدبه، والتي ساهمت فيها الظروف الطبيعة، والبيئة السياسية والواقع الاقتصادي المعاش، ولا يستبعد غياب سلطات كوردية معتدية، وناهبة لأثار الأخرين، أو جلب سبايا الحروب إلى قلب كوردستان، والتي عرضت كوردستان والشعب الكوردي، على أن يكون الخزان الذي نهل منه الأخرون ولم يصب فيه أحد آدابه أو سماته. فلو نظرنا إلى خريطة أبن حوقل النصيبيني (943-988 م) المرفقة سنلاحظ
مركزية الكورد بين الأقوام المجاورة وكذلك جغرافيتهم، المتضمنة مصايف ومراكز تمركزهم في فصل الشتاء، ومناطقهم ومدنهم، وهي عديدة هنا، فمقارنتها بالجغرافيات الحالية بالإمكان وضع خريطة واضحة لكوردستان. والتي وعلى خلفية غياب سلطة كوردية متعصبة مثل سلطات الشعوب المجاورة ضاعت أو نهبت جل أثارهم وإسهاماتهم الحضارية، وهو ما يؤدي صعوبة مسالك البحث في الأدب والثقافة الكوردية واللغة

التي كانت لغة الحضارة قبل هذه الفترة بقرون قليلة.
ومثلها حصلت لأموالهم وديمغرافيتهم عند الغزوات المتعددة، وأكثرها في المراحل الأولى للاجتياح الإسلامي العربي، الواقع الذي أستمر لقرون طويلة إلى أن ظهرت الأنظمة العنصرية الحديثة وانتبهت إلى هذه الجدلية فقامت وبطرق ممنهجة على عملية التغيير الديمغرافي إما بالتهجير القسري للكورد من مناطقهم أو جلب الأخرين إلى كوردستان، مع محاولات مستمرة لتغيير البنية بل والبيئة الاقتصادية والديمغرافية، والأمثلة عديدة وتشمل الأجزاء الأربعة من كوردستان، بل وفعلتها السلطة السوفيتية كذلك في بدايات الأربعينيات بالكورد القاطنين في منطقة التي سميت بجمهورية كوردستان الحمراء.
ففيما إذا عدنا إلى التاريخ، سنجد، رغم التعتيم الذي طالت المجالات الثقافية، وتأخرها عن ركب الحضارة، ظلت اللغة الكوردية محافظة على ثوابتها، وهو ما سهلت لنهوضها ثانية عندما ظهرت البيئة المناسبة، وتهيأت لها الأرضية، التي أستقى وأستند عليها الموسيقار الكردي العبقري (زرياب 789-857م) الذي سمي أحيانا أبن بلاد الرافدين كمحاولة للتعتيم على أصوله، أن ينشر نوتاته ومؤلفاته الموسيقية باللغة والأرقام الكردية، وفيما بعد تبين أن أسمه كان لقب وصف بها ذاته، وتعني بالكردية ماء الذهب، ولم يستند على لغة النص أي العربية، لأن إبداعاته كانت نابعة من البيئة الكوردية التي تربى فيها، ومن اللغة التي كانت تتحكم بصوره النمطية عن الفن، وهي اللغة الكوردية.
وهذه تعد من أولى بوادر النهوض أو لنقل عودة اللغة الكوردية إلى المجال الثقافي، علما أنه كانت في المراحل الأولى من الهيمنة العربية الإسلامية، على سوية لغات الحضارات التي سبقتها، وقد نوه إليها العديد من المؤرخين بينهم ابن وحشية في كتابه المذكور والمنسوخ بخط يده، الصفحة(165) ذاكرا ” في ذكر أقلام الملوك التي تقدمت من ملوك السريان والهرامسة والفراعنة والكنعانيين والكلدانيين والنبط والأكراد والكسدانين والفرس والقبط” ولم يأتي على ذكر الساسانيين لأنه حل مكانهم اللغة الكوردية، وهي دلالة على أن الساسانيين كانوا يعرفون إلى حينه ككورد. إلى جانب أمثلة أخرى تم ذكرهم في التاريخ، وجلها في عالم السياسة والجيش، فكما نعلم ومن مصادر عديدة، أن مؤسس الخلافة العباسية، الكردي أبو مسلم الخرساني والذي غدر به خيانة أول الخلفاء العباسيين، بعدما ثبتها له أركان دولته؛ وقضى على الخلافة الأموية، كان يراسل قادته، باللغة الكوردية والتي كانت لغة ديوانه، إلى درجة يقال إنها كانت من أحد أسباب كراهية الخليفة المعتصم له ودعوته إلى العشاء ومن ثمن الغدر به واغتياله. كما وأن أخر الخلفاء الأمويين محمد بن مروان وكانت أمه كردية، أبنة أحد أمراء شهرزور، يقال في المصادر، إنه بعدما تعرضت دولته إلى الانهيار، نقل عاصمته إلى نصيبين حيث القرب من مناطق خواله الكورد، لجلب ودهم إلى جانبه أثناء حروبه ضد أبو مسلم الخرساني، وكان يراسلهم بلغتهم الكوردية.
هناك العديد من الحوادث التاريخية الرئيسة، برزت مع ظهور قادة كورد في المراحل الأولى من الإمبراطورية الإسلامية، إلا أنهم لم يحاولوا إعادة الكتابة باللغة الفهلوية الشرقية، ولربما لأسباب متعددة، منها تأخرها عن ركب الحراك الثقافي، وصعوبة إعادة إحيائها، حيث قلة الإمكانيات لمواجهة لغة النص والسلطة العربية الإسلامية، وبالتالي كثيرا ما يتم التشكيك بنسب القادة الكورد الذين كان لهم دور كبير في التاريخ الإسلامي، أمثال قائد ثورة القرامطة، والأمراء الذين كانوا في فترات يحكمون بشبه استقلالية، إلى جانب ظهور العديد من الفقهاء والأدباء الذين لهم إسهاماتهم في التاريخ والأدب والفقه الإسلامي وتطوير اللغة العربية، بينهم أبن الأثير وابن تيمية كأوضح مثالين، ونحن هنا لسنا بصدد ذكر الأسماء، لأن معظمهم لم يكن لهم بصمة لإعادة إحياء الكتابة بلغة أجدادهم الكرد، مثلما فعلها قادة الفرس السياسيين والعسكريين في زمن الدولة السامانية…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
1/5/2020م
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها فقط ، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع )
التعليقات مغلقة.