الباحث والكاتب السياسي الكوردي الدكتور : محمود عباس “
الإسلا والتعريب:
لأغلبية العرب فضل في نشر الإسلام، وللإسلام فضل على اللغة العربية. حملوا الرسالة، والرسالة حملت لغتهم، فالإسلام كان وسيظل طوال التاريخ حامياُ العرب ولسانهم، فلم تقدم ديانة فضائل وخدمات لقومية ولغة في التاريخ مثلما قدمها الإسلام للعرب، حكمائهم ومفكريهم بعكس سياسييهم وسلطاتهم لم ينسوا يوما هذا الرباط الحافظ لهم، ويدركون أنه بقدر ما علت من مكانتهم همشت غيرهم من القوميات، وأذابت بعضها في بوتقتهم، تحت عباءة الأمة الإسلامية، استفادت منها أنظمتهم على مر التاريخ، فكثيرا ما نادوا بحرية الشعوب الأخرى لسانا دون فعل.
للعنجهية سقطاتها المدوية، كالتي تتلقاها الأنظمة العربية ومنظماتها الإسلامية السياسية وتكفيرييهم، وبعدما أعمتهم ملذات السلطة تغاضوا عن الحقائق، فانتشرت المفاهيم التي كانت مخفية حتى وقت قريب، فغرقوا في الفساد، وأفسدوا جدلية العلاقات الإنسانية بين الشعب العربي والشعوب الإسلامية المتبنية اللغة العربية لغة رسمية، وبها نخروا في مصداقيتهم مع الدين والشعوب المجاورة، وخاصة المتلقفة اللغة العربية، كمنبع للثقافة، إلى أن بلغنا المراحل الحالية وكأننا على أبواب هدم: المجد العربي المبني على اللغة والإسلام، وما تم من التقارب الوهمي، والموسوم بصياغة السيد والموالي، وعلى مدى القرون الماضية.
عامل اللغة العربية
سؤال تبحر فيه الكثيرون من الفقهاء إلى اللغويين: هل العربية لغة الإسلام، أم حملتها وتحملها دون فروض؟ وهل تصح العبادات بدونها؟ كانت الأجوبة صارمة في المراحل الأولى من الإسلام، في القرون التي كانت العربية تنتقل بالوراثة، لكن بعد انتشاره، وبعدما بدأ الناس يتعلمونها إلى جانب لغاتهم الأصلية، زال الرباط الذي كان يقدس، فحدى ببعض المفكرين على طرح مقولة الشعوب العربية إلى جانب الأمة الإسلامية أو منافسة لها، وكانت تلك بداية الفصل بين العرب والشعوب التي تبنت اللغة إما كبديل عن لغتها أو إلى جانبها، وعلى أثرها تم طرح مفهوم الوطن العربي كمصطلح طوباوي، والغاية المخفية منها، تجميع الشعوب، ضمن الجغرافية الواسعة والشاملة لشعوب عدة، تحت عباءة العروبة، كمحاولة فاشلة لتكوين هوية حضارية عربية حصراً، خاصة عندما حرفت الأنظمة العنصرية مساراتها لغاية السيادة، وأصدرت قرارات سياسية، هدمت بها الروابط، بين الشعوب التي كانت تستظل بظل الأمة الإسلامية أو تجمعهم اللغة العربية، إلى درجة تم الطعن في الرابط الثقافي الإسلامي، ومع تعمق الخلافات المذهبية، بدأت تظهر حركات مناهضة للربط الفقهي بين اللغة العربية والإسلام، وعلى أثرها برزت الحوارات على الانتماء إلى العروبة، وحول الجدلية المقالة أن كل من يتكلم العربية عربي.
وعلى أبعاد هذا السؤال، بدأت مرحلة زوال منطق رضوخ الشعوب للأنظمة العربية تحت عباءة الإرضاخ للدين، التي ساهمت على مدى القرون الماضية في تزايد العرب شعبا وجغرافية، ليست بالوراثة أو ملكاً تاريخياً بل بالتعريب، وبرهبة الدين كسند لا يقاوم، والتي استغلتها السلطات الإسلامية العربية من عصر الخلفاء ألأمويين إلى الأن، فوضعوا إلى جانب الأمة الإسلامية قانون اللغة كهوية دينية وهي في عمقها تفرض الهوية العربية وتلغي هويات الشعوب الأخرى، الفرضية التي استمرت لقرون طويلة، إلى أن ظهرت الحركات القومية العربية ذاتها وطعنت في تلك النظرية، دون أن تنتبه الأنظمة العربية إلى خطورتها في البدايات، المؤدية إلى ظهور الحركات القومية بين الشعوب المستعربة لغة، كَردُ فعلٍ عكسي.
وقد بدأت النقاشات والشكوك حول الخلاف بين اللغة العربية والانتماء القومي، وحول الإسلام كرابط بين القوميات، وخاصة بعد الثورات المسماة بالربيع العربي، وفي الواقع ليس سوى الخريف العربي، هذه الإشكاليات والروابط بدأ يهدمها بشكل أسرع تكفيرييهم وأنظمتهم العروبية، إلى أن بدأت المقارنات ما بين اللغة العربية الجامعة، والعربية التي ستظل لغة مجردة مثلها مثل الإسبانية في أمريكا اللاتينية، أي شعوب أصيلة أصحاب الأرض تتكلم العربية، كشعوب أمريكا اللاتينية واللغة الإسبانية، كالبرازيل والبرتغالية، فهل هم من القومية الإسبانية أو البرتغالية على خلفية لغاتهم الرسمية؟ وهل كان عليهم تسمية دولهم بـ الجمهورية الإسبانية الكولومبية، أو الجمهورية الإسبانية المكسيكية، أو الجمهورية البرتغالية البرازيلية.
ومثلهما أمريكا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا وغيرهم واللغة الإنكليزية؟ لماذا لا نسمي الولايات الإنكليزية الأمريكية المتحدة. تيمننا بالجمهوريات أو الممالك العربية. وهكذا بدأ يظهر ويطرح السؤال: هل الدول الأمازيغية الأصل، المغرب والجزائر وتونس وليبيا عربية، أم أنها تتكلم العربية؟ وهي اللغة الجامعة على خلاف مع الانتماء العرقي؟ كثيرا ما يقال إن العرب في شمال أفريقيا ما بين 15- 4% من السكان الأصليين، ومثل هذه الإشكالية بدأت تظهر وتناقش في دول الشرق الأوسط، كسوريا والعراق، ولبنان وفلسطين، ونحن هنا لا نتحدث عن كوردستان فلها خصوصيتها على خلفية حفاظها على لغتها وديمغرافيتها، رغم وجودها تحت الاحتلال كجغرافية وشعب، فهي أكثر الشعوب المحتلة حفاظاُ على مميزاتها القومية.
مصطلح الوطن العربي
في الواقع بدأت تظهر التناقضات السياسية بشكل متسارع بين الشعوب المتبنية اللغة العربية كلغة رسمية، رغم أن الأغلبية يحاولون أن يتمسكوا بالثقافة الإسلامية عن طريق اللغة، أي لغة النص، لكن ما قامت به الأنظمة العروبية على مدى العقود الماضية كانت كافية لتزيل غطاء أربعة عشرة قرنا عن الحقيقة المخفية وراء الدين، ولربما لأن الحركات العروبية شعرت بهذه لذلك تسارعت في طرح مصطلح الوطن، وليس الوطن العربي، بل سوريا كوطن، وعراق كوطن ومصر وليبيا والجزائر وتونس والمغرب وغيرهم، كبديل عن العامل الديني واللغوي، وأعادوا التشديد على المقولة الدارجة منذ الوحي؛ كل من يتكلم العربية فهو عربي، وكلنا يعلم وكتب فيها الكثير، أن قريش كانت تعلم أصولها غير العربية، لذلك شددوا على رابط اللسان العربي، عربية قبيلة قريش، ومن هذا المنطق، كثيرا ما بدرت أسئلة حتى بين الفقهاء:
1- هل قريش خلقت العربية الحالية، أم انتمت إليها.
2- هل قبائل الجزيرة العربية والعالم الإسلامي مدان لقريش وللغتهم؟
3- أيهما العربية: لغة قريش أم اللغات التي ذابت أمامها؟
4- هل العربية بدأت من قريش. وغيرها من الأسئلة المغموسة ما بين علم الكلام والفقه وفلسفة اللغة والعرق؟
تمكنت السلطات العربية الإسلامية وفيما بعد القومية، على خلفية الربط بين اللغة والقومية من زيادة الديمغرافية العربية أضعاف مضاعفة، وبها تم ترسيخ الحكومات العربية على حساب الشعوب الأخرى، وإدامتها على مدى قرون طويلة، المتممة لجدلية من الأحق بالخلافة؟ السؤال الذي ظل نواة خلافات دموية لا نهاية لها. البعض طالبوا بأنها لآل النبي، لكنها وسعت لتحصر في قريش وبعدها في العرب، إلى أن سلبها منهم العثمانيون الأتراك، وهكذا حصرت السلطة ضمن الجغرافية المسماة جدلا بالعربية في المكون العربي، أو سميت بالعربية حتى عندما كان يحكمها غيرهم، وهي ذاتها في تركيا وإيران.
حتى العلماء والفقهاء من الشعوب الأخرى كانوا في البدايات يعرفون تحت الغطاء الإسلامي، لكنهم ومع ظهور الموجة القومية، بدأت تزال عنهم الصفة الدينية، ويقدمون على خلفية اللغة العربية التي قدموا بها نتاجهم وإبداعاتهم، وخير من يمكن التذكير بهم، كأمثلة عكست رغبة الشعوب ذاتها في تعلم العربية كجسر لاعتناق الدين بصحيحه، نذكر منهم سيبويه وأبن جني، أبن الهيثم المبدع في البصريات، وأبناء موسى الذين كتبوا الميكانيك بلغة الإسلام العربية، وجابر بن حيان كتب الكيمياء بها، وأبو بكر الرازي وأبن النفيس طورا اللغة العربية في مجال الطب والتشريح والأدوية، والبيروني في الجغرافية والفلك، والخوارزمي في الرياضيات، والزرياب في الفن والموسيقى، وغيرهم العديد، وجميعهم لا تربطهم بالعربية إلى اللغة والرباط الديني. وعلينا ألا ننسى أنه هناك شعوب اعتنقت الإسلام دون تعلمها، فهل هناك نقص في إيمانهم أو إسلامهم؟
المطلوب من الشعوب المحتلة
من السذاجة لشعوب شمال أفريقيا، الأمازيغ وقبائلهم، والقبط، محاولة إلغاء العربية كلغة، بل من الحكمة دراسة لغة الأم إلى جانب اللغة العربية، ومعها يجب نشر مفهوم الفصل بين اللغة والقومية، مثل الفصل بين الإسلام واللغة العربية والعروبة. فالقضية ليست مع العرب ولا مع اللغة العربية، بل مع الأنظمة الشمولية العنصرية، والتي من مصلحتها ديمومة الصراع بين القوميات، وتحفيز الشعب العربي على كراهية الأخرين، ونشر الادعاء أن الديمغرافية المتواجدة على الجغرافية المسماة بالوطن العربي هي ديمغرافية عربية والشعب هو العربي، إلى أن درجت مقولة ساذجة في الشارع، كلنا عرب. كما وهي من مصلحة الشعوب الأخرى نشر الفصل بين الأنظمة والشعب العربي.
وللشعب الكوردي الواقع تحت احتلال الأنظمة العربية السورية والعراقية، ومثلهما النظامي الفارسي والتركي، أبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية الخاصة، فهي أكثر من الجميع حافظت في الدول الأربعة على لغتها الأم، رغم ما فرض عليها من تعلم لغات السلطات المحتلة، لذلك لا بد من العمل على ترسيخ التدريس باللغة الكوردية، حتى ولو كانت مسايرة للغات الأخرى في المراحل الأولى، لكن يجب تجاوزها مع الزمن، وهي من أقوى الخطوات لإزالة الاحتلال الثقافي، والتي ستكون بداية لإزالة لاحقاتها من الاحتلالات؛ السياسي والجغرافي، لكن الاحتلال الثقافي أقسى أنواعها. لهذا نحن الكورد نحتاج إلى تكوين لغة أدبية ثابتة شاملة، والكتابة بالحروف المشتركة، ومن الأهمية اتخاذ اللاتينية مرجعية رئيسة، لإنقاذ الذات من الاحتلال المدمر، وتوعية الشعب الكوردي على أن الدين لا علاقة له باللغة، فالتقرب من الله يصح بكل اللغات التي خلقها الله لخلقه، والكوردية سخرها الله لنا للعبادة مثلما جعلها وسيلة التفاهم والتقارب.
(هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع )
التعليقات مغلقة.