كيف نبني اللغة الكوردية الجامعة
اللغة المشتركة تجمع الشعوب المختلفة، كالشعوب الناطقة بالعربية، والتي أصبحت صلة التقارب الوحيدة بينهم، متغاضين عن غيرها من العوامل التي تفصلهم عن بعضهم كشعوب لها ميزاتها، وما يعرض غيرها من مقومات لوحدة القومية ليست سوى تغطية، وهذه هي السمة الوحيدة التي جعلت نسبتهم السكانية بهذه الضخامة، ومثلها الشعوب التي أصبحت تركية أو فارسية، ولولاها لكانت الدول المدعية اليوم بالوطن العربي، ذات الأنظمة المتناقضة والمتضاربة؛ دول بأسماء مختلفة متناقضة القوميات مثل دول الجوار.
كما وأن الاختلاف في اللغة كثيرا ما تكون عامل للتفرقة بين الأمة الواحدة، ففي بعض الأحيان تصبح كالأديان والمذاهب تفصل بين الشعب الواحد، ومن الغرابة أن اللهجات الكوردية، وخاصة في جنوب كوردستان، وفي مجالات ما كانت من ضمن عوامل الصراع السياسي والانتماءات الحزبية، إلى مرحلة الإحساس بالفصل الجغرافي عن بعضهم، أثرت في كثيره على الأجزاء الأخرى من كوردستان، رغم المحاولات المتعددة للتقارب بينهما، إلا إن الهوة لا تزال واسعة، والشعب الكوردي، وعلى خلفية ما يجري من التقاعس وعدم الجدية في حل هذه المعضلة الرئيسة، أبعد من أن يتوقع ظهور لغة كوردية أدبية جامعة في الوقت القريب، فالعمل المبذول من أجله لا ترقى سوية المشكلة، بل وإهمالها تزيد من رغبة كل طرف في تفضيل ذاته، والاستقلالية بلهجته.
الاختلاف بين اللهجات متنوع وواسع، من حيث كتابتها، وبعض الاختلافات القواعدية، وفي الكلمات إلى درجة تصعب التفاهم، مع غياب صياغة أدبية مشتركة، إلى جانب اختلاف الحروف، وغيرها من الإشكاليات، تعد من أحد أهم القضايا التي تواجه أمتنا؛ وستظل، ولا يستبعد فيما إذا لم يتم وضع حلول لها، ستكون من أحد أسباب الإشكاليات السلبية المستقبلية، ثقافيا وسياسيا، وهي أعمق وأخطر من التنوع المذهبي بين المجتمع الكوردستاني، بل ومن الصراعات السياسية والإيدلوجية على المدى البعيد.
كتب فيها العديد من المثقفين الكورد، اللغويون، والباحثون فيها كتاريخ؛ أو كمجال من مجالات الثقافة، كما وتناولها بعض السياسيون، وشكلت لجان لتناول المشاكل المذكورة، وأكثر، إلى جانب قضية الحروف التي كانت ولا تزال تعاني منها لغتنا وبالتالي أمتنا، وقضيتنا، وتبين لدى العديد منهم أن عدم إيجاد الحلول ليس فقط تفصل كوردستان عن بعضها ديمغرافية بل وتعيق تطور اللغة بحد ذاتها.
فرغم ما يقدمها الإعلام الكوردي بكل أنواعه، من المرئي إلى المسموع، إلى المكتوب، من المحاولات الجليلة لخلق التقارب، وخاصة على الأقنية التلفزيونية، من خلال تقديم برامجها بوجود مذيع من كل لهجة، وكتابة الأخبار بالحروف اللاتينية والعربية، فرغم أنها تزيد من سوية الإعلام والوعي الجمعي، لكنها لا تغير من الواقع الموجود، على مستوى اللهجات وتكوين لغة أدبية على مستوى الأمة، لأنها تظل محصورة ضمن إطار اللحظة، فعمل القوى الكوردية الثقافية والسياسية، وإدارة الإقليم حصرا، وبهذا البطء تبقي أبواب الشرخ مفتوحا بين أطراف حراكنا الثقافي والسياسي وبالتالي بين المجتمع الكوردستاني، ليس فقط في المجال الفكري والأدبي بل وفي الشارع الكوردي، بل وكثيرا ما تعمق الخلافات السياسية.
نكرر، أن الاهتمام الهزيل بهذه القضية المصيرية، من قبل الإدارات الكوردية أو المراكز الثقافية، كالجامعات، ستسهل من التباعد بين اللهجات، وستصعب حلولها مستقبلا، فكما نلاحظ أن معظم اللجان التي تشكلت لدراسة هذه الإشكاليات، فشلت على خلفية الإصرار على اللهجة التي يتكلم بها كل طرف، ولم يبحث حتى اللحظة معالجتها ضمن الإطار الجامع للهجات، أو ما يمكن تسميتها اللغة الأدبية الكوردية الشاملة، وكلما يتم حوار مع أحد الأشخاص الذين شاركوا في معالجة هذه القضية، يضع اللوم على الطرف الأخر، ويتناسى أن الطرفين لم يبحثا عن الحلول خارج الدعوات الذاتية، أي أن كل جهة ظل يحاول أقناع الأخر بأفضلية لهجته لتكون الجامع، وتصبح اللغة الأدبية الشاملة، وحروفه تكون هي الرئيسة، وهنا تكمن أس المعضلة، والتي لن تؤدي إلى أي حل، وسيكون من شبه المستحيل إلغاء لهجة أو فرض واحدة على الأخريات، وبالتالي لا بد من البحث عن حلول مختلفة، ومنها الجامعة لكل اللهجات، وفي الواقع وجودها بكلماتها المتنوعة ثروة كبيرة لكلية اللغة الكوردية.
تتشتت قدرات المثقفين المختصين في مجال اللغة؛ رغم أن العديد منهم ساهموا في تطويرها وجماليتها؛ لكنها ظلت محصورة ضمن اللهجات، ولم تتمكن من تجاوز جغرافيتها إلا قليلا، بعضها تمت على خلفية إعادة الكلمات الكوردية المنسية إلى الحياة، وخاصة في البعد السياسي، علما أن اللغة الكوردية تدرج ضمن منظمة الأمم المتحدة، في الدرجة الـ 27 من بين اللغات العالمية التي يتكلم بها شعوب الأرض.
وتتبين من خلال ما تم من النشاطات، وما يجري على الساحة الإعلامية، وبين الحراك الثقافي، أننا نحن الشعب الكوردي، نعاني ليس فقط من تعدد اللهجات، وهي حالة قد تكون صحية، كثروة لكلية اللغة، فيما لو تم استخدامها بشكل عقلاني، بل نعاني من التعنت الفكري، وهذه تتصاعد مع استمرارية غياب لغة أدبية مشتركة، تحتضن كل اللهجات، وتكتب بها مقررات جميع المراحل الدراسية، من الابتدائية إلى الجامعة، ويتم الحديث بها ضمن الأدبيات الرسمية، وتقرأ في الإعلام، وتصبح اللغة الرسمية في دوائر الدولة، مع عدم التعرض للهجات المستخدمة في الشارع أو البيت، وخير مثال لنا هي اللغة العربية والإنكليزية والإسبانية المتعددة اللهجات، والتي تجمعهم لغة أدبية تغطي على اللهجات وتتجاوز النزعات الإقليمية. لا شك هنا تظهر جدلية، أيها كانت البداية، اللغة الأدبية أم اللهجات، رغم ذلك بإمكان خبراء اللغة الكوردية وبدعم من القوى السياسية والإدارات المعنية، خلق تلك اللغة الأدبية الجامعة، والمعضلة ليست في كتابة الكتب المدرسية، بل في مضمونها، فكل طرف سياسي سيتدخل ليضع منهجيته الفكرية فيها، وهذا ما نراه بين الأجزاء الأربعة، وخاصة بين الإقليمين، وخاصة الغربي الذي بدء حديثا في وضع المناهج الدراسية، والتي ملئتها بإيدلوجية غريبة.
في الحقيقة العوائق كبيرة وكثيره، وستظل ما لم يتم العمل عليها بشكل متواصل، وتركها للتباحث ضمن مؤتمرات أو لجان آنية؛ تعمل بين حين وأخر؛ وتبتعد عن بعضها عند أول خلاف أو صدام، وهو ما سيؤدي ليس فقط في استمرارية الإشكاليات بين المجتمع، بل ستتعمق تأثيراتها مستقبلا على واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
بغض النظر عما قدمته مؤسسات حزب العمال الكوردستاني، في مجال اللغة الكوردية، وتحفيز قيادييها التحدث بكوردية نقية، الواضحة من خلال مقارنة لغتهم بلغة القياديين في الأحزاب الكوردية الأخرى في الإقليم الفيدرالي أو الجزء الغربي، وقد كانوا السباقين مثلها في مجال الأعلام، ويمكن ملاحظة الفرق بسهولة أثناء الحوارات، لكن ليست هنا بيت القصيد، أي تنقية لهجة معينة وتطويرها؛ رغم أنها خطوات ناجحة، بل لا بد من العمل على اللغة الكوردية الجامعة.
فهم خلقوا نوعية مختلفة في الحديث، خاصة بين قيادات الجزء الشمالي من كوردستان، وتظهر بشكل جلي في بعض الحوارات، كعدمية التماسك بين الجمل بدون جمل اعتراضية، لا داعي لها لتقديم الفكرة، وجمل تشرح الجمل المقالة قبلها، وغيرها من الإشكاليات، تعكس الضعف في اللغة الكوردية الشاملة المأمولة أن تطغى على اللهجات، وهو ما لم يتم العمل من أجله، من جهة، والإصرار على تعلمها والحديث بها بلغة أدبية في الوقت الذي يستخدمون فيها لغة أخرى غير الكوردية في الأحاديث اليومية وفي الحوارات والنقاشات الداخلية، ولا يلاحظ مثلها عند المتمكنين منها، وهي مختلفة عن السلاسة الكوردية المعروفة. إلى درجة بالإمكان معرفة انتماء المتحدث إلى المنظومة من خلالها، وبالمناسبة أغلبية الشريحة الثقافية الكوردية الذين يكتبون بلغة غير لغتهم الأم ونحن بينهم، نعاني من هذه الإشكالية، ولا شك نحن مقصرون في هذا المجال مثل غيرها من المجالات، حتى ولو كانت الأسباب متعددة وأحيانا كانت قاهرة.
عرضنا المثال السابق تجاوزا، وقد نتلقى الكثير من الانتقادات، وهو ما نود ونطمح إليه، لتصحيح ما لم نوفق فيه، أو تقديم الأفضل في هذا المجال، وبها أردنا تبيان مدى قدرة العمل الجدي على خلق لغة أدبية جامعة تخيم على كل اللهجات، فيما إذا كانت الغاية هي الأمة ومصلحتها، واستطاعت لجان العمل تجاوز الانتماءات المناطقية، والنزعة الإقليمية.
لا شك معظمنا تأذينا مما فعلته الأنظمة الشمولية بنا من ناحية اللغة، وجميعنا يعلم الأسباب، ولا يعني أننا نبرر تقاعسنا في هذا البعد، فلا زلنا دون سوية الحديث بسلاسة كوردية، دون استخدام الكلمات العربية، أو التركية، لكن المثقف الكوردي الذي تمكن من تصفية لغته واستخدامها بنقاء الكلمة والقواعد، واستطاع الحفاظ على سلاستها، وتمكن من تنقية لغته الأدبية، دون السقوط في الهشاشة والضياع ما بين الكوردية ولغات المحتل، هم رواد هذه المسيرة، وعلينا جميعا أن نكن لهم كل التقدير، فهؤلاء أثبتوا ليس على عالمية اللغة الكوردية وغناها وجماليتها، بل على أنه بالإمكان خلق لغة أدبية جامعة فيما لو كانت النيات وطنية نزيهة.
فما هي أسباب هذا التقاعس والتلكؤ، في هذه الإشكالية المصيرية؟
التعليقات مغلقة.