في سنة 1913م حدث نزاع في مؤسسة تعليمية مصرية كبرى كانت كركوك محور هذا النزاع، وبشأنها بُحِثَ عن الحل، وبالتوصل إلى هويتها القومية تم حَسْمُه علميًا في وقت وظروف لم يكن النزاع السياسي الحالي حول كركوك قد ظهر، ولم يكن تغيير ديمغرافي ممنهج ملحوظ قد استفحل، ولم تكن الخيوط الداخلية والإقليمية للمتاجرة بهوية كركوك قد تبلورت. فما أصل هذا النزاع؟ وكيف تم التعامل تجاهه؟ وبأي حلٍ تمت تسويته؟ في إبريل/نيسان 1913م جاء الطالب “شوكت محمد غوث” من كركوك إلى مصر للدراسة في “الأزهر الشريف”. وبالنسبة للوافدين على الأزهر من الخارج وقتذاك كان لكل أبناء جنسية وقومية «رواق» باسمهم في داخله، وهو ما يقابل حاليا “القسم الداخلي، أو المدينة الجامعية للطلاب” في الجامعات؛ وعليه كان للكورد رواق باسم «رواق الأكراد»، وللترك رواق باسم «رواق الأتراك»، وللعراقيين رواق باسم «رواق البغداديين» أو «رواق البغادة»… وهكذا مع حوالي 42 قومية مختلفة يفدون على الأزهر لا يتمتعون بجودة ومجانية الدراسة فقط، وإنما يتم الصرف على كل شؤون حياتهم طوال سنوات الدراسة -بما فيها الحج مرة- منذ خروجهم من بلادهم وحتى عودتهم إليها مرة أخرى حاملين شهادة “الأهلية” وهي تعادل “الليسانس” حاليا، أو حاملين “العالِمية”، وهي تعادل الدكتوراه حاليا. عندما وصل الطالب “شوكت محمد غوث” إلى الأزهر جاملا معه كل مستمسكاته المطلوبة بما فيها “وثيقة الميلاد”، طلبَ الانتساب والإقامة بـ “رواق البغداديين”، لكن شيخ هذا الرواق (الرئيس) رفض «قبوله بدعوى أن هذه البلدة ليست تابعة لولاية بغداد». عندها اشتكى الطالب لمسؤولي الأروقة في الأزهر، فتحققوا من أوراقه؛ فوجدوه كوردياً مولودًا في كركوك؛ وعليه طلبوا من شيخ رواق الأكراد قبوله: «نظرا لأنه مولود في بلاد الأكراد»، لكن شيخ رواق الأكراد رفض مُدّعيًا أن الطالب شوكت محمد غوث «تركي الأصل، وأنه لا يُقبل في رواق الأكراد إلى من كان من أصل كردي»( )، حتى وإن كان قادما من كركوك، فلا يُقبل في الرواق إلا الكوردي أصلاً ومولدًا( ). تجاه ذلك عرض مسؤولو الأروقة الأمر على شيخ رواق الأتراك، لكنه لم يوافق على قبوله في رواقه أيضا بدعوى «أنه لا يُـقَـبل في رواقهم إلا الأتراك المقيمون في بلاد الأناضول بأسيا والرومللي بأوربا( ).. وليست هذه البلدة (أي كركوك) في حدودهما ولا داخلة في دائرتهما»( ). وهنا، تطلب الأمر تشكيل لجنة علمية لتحديد هوية كركوك: هل هي كوردية أم تركية أم عربية؟ مع فحص أوراق الطلاب السابقين الذين أتوا من كركوك: في أيّ رواق تم انتسابهم؟ وبعد انتهاء اللجنة المشكلة من مهمتها توصلت إلى ما يلي: 1- أن كركوك إحدى البلاد الشهيرة بكردستان، اعتمادًا على ماورد في كتاب النخبة الأزهرية في الجغرافيا لإسماعيل بك علي (صحيفة 502)( ). 2- وُجد في سجلات الأزهر من يُدعى محمد عطا الله يوسف حسن من ناحية كركوك، كان منتسباً إلى رواق الأكراد. (سجل سنة 1303هـ، بوجه 110). 3- كما وُجد في سجل خاص برواق البغادة لسنة 1329هـ مَـنْ يدعى تقي الدين بن محي الدين بن الحاج سليمان من كركوك تحت نمرة 8( ). ثم تم إعداد مذكرة تفصيلة بكل ما سبق ورفعها إلى شيخ الأزهر في 10 جمادى الأولى 1331هـ- 17 أبريل/نيسان 1913م؛ لرفعها على مجلس إدارة الأزهر لدراستها واتخاذ ما يلزم( ). وبالفعل تم عرض هذه المذكرة التي حملت رقم (8) في أوراق جلسة مجلس إدارة الأزهر التي عُقدت 23 إبريل/نيسان 1913م، واتخذ المجلس قراراً غريبا حمل رقم (254 – سابعا)، حيث جاء فيه: بما أن كركوك تابعة لولاية الموصل، وقد سبق لمجلس إدارة الأزهر أن قرر بتاريخ 14 يناير/كانون الثاني 1906م قبول انتساب طالب يتبع هذه الولاية إلى رواق البغداديين، فإن المجلس يقرر قبول انتساب الطالب “شوكت محمد غوث” برواق البغداديين جرياً على ما اتبع في مثل ذلك( ). وبعد ستة أيام تم إبلاغ شيخ رواق البغادة بهذا القرار رسميا لتنفيذه( ). وجه الغرابة في هذا القرار هو شذوذ ما تم الاستناد عليه، مع أن المذكرة المرفوعة إليه بها تفاصيل الحالة بما فيها تقرير اللجنة العلمية التي شكلت للبحث عن هوية كركوك، وتوصلت إلى أنها كوردية، وأن أغلب من جاؤوا منها انتسبوا إلى رواق الأكراد بحكم مولدهم وأصلهم الكوردي. أما الحالة التي استند إليها مجلس إدارة الأزهر فهي لطالب يدعى محمد حمدان موصلي عربي من أهل مدينة الموصل( ). فكيف يقاس على حالة غير ممثالة للحالة المعروضة. يؤيد كلامنا هذا أن عددا من طلاب كركوك جاء بعد ذلك للدراسة بالأزهر، وكان انتسابهم إلى رواق الأكراد على الأساس التي كانت تعامل به كركوك بأنها من البلاد الشهيرة بكوردستان، وطلابها ينتسبون إلى رواق الأكراد. على كل، وبعيدًا عن القرار الذي اتخذ في حق الطالب شوكت محمد غوث، فإنه باعتراف كل من شيخ رواق البغداديين وشيخ رواق الأتراك وبما توصلت إليه اللجنة العلمية في الأزهر تبين كوردستانية كركوك، وذلك قبل ما يزيد عن قرن من الزمان، وقبل أن يظهر أي نزاع سياسي عليها.. فهل يمكن للأطراف الحالية أن تنظر إلى قضية كركوك بحيادية وموضوعية بعيداً عن المصالح الضيقة أحيانًا والشوفينية أحيانا أخرى؟
التعليقات مغلقة.