المجلس الوطني الكوردي في سوريا

من أين تأتي القيادات الحزبية الكوردية؟. الجزء الخامس

116

استطاعت الأنظمة العروبية الشمولية في سوريا والقوى المتربصة بالكورد، محاصرة الفلاح الكوردي، وهدم العلاقات الاجتماعية في المجتمع، والقضاء على مكانة معظم العائلات المعروفة، والغاية الرئيسة لم تكن هذه، بل عاطفة الشعب العفوية تجاه قضيته وعلاقاته الاجتماعية، بعدما مهد لهم، ولربما بدون إدراك، الحزب الشيوعي؛ كما ذكرنا وفيما بعد أحزاب اليسار الكوردي، وعلى مدى أكثر من أربعة عقود من نشرهم الخلافات وخلق الفتن في الريف الكوردي، إلى درجة كادت أن تقضي على القضية القومية الكوردية تحت خيمة الصراع الطبقي الاجتماعي، في الوقت الذي كان مفهوم القومية العربية تسود وتنتشر عن طريق أحزابها، وتهيمن على النظام ومفاصله والمجتمع، والعشائر العربية تتمدد في جغرافيتنا بعدما تحتلها أنظمتهم بسلب أراضي الفلاحين الكورد قبل أراضي الإقطاعيين، حتى ولو لم تكن ملكية لكنها كانت مصدر الرزق الوحيد.

 

أتذكر حديث لوالدي في هذ المجال، قال: أن أكثر من تأذى من جهالة الشيوعيين الكورد واليسار الكوردي، دون أن يخلقوا البديل، وأستغلها البعث، هم الفلاحون الكورد، ومن ثم الإقطاعيون، وأكثر من استفاد منها هم أعوان النظام في المدن ومن ثم الفلاح العربي وبعده الإقطاعي العربي، وأضاف، خسرنا ليس علاقاتنا الاجتماعية في القرية، بل كوردستانية جغرافيتنا التي تحتل، وجغرافية كوردستان التي تقتطع أمام أعيننا.

 

والأغرب هو دور اليسار الكوردي والمتمثل بالحزب المنشق عن الحزب الكوردستاني، ليس من حيث الفكر الذي كان عاجزا من إدراك ألاعيب النظام الاستبدادي الشمولي، بل من جهالتهم في تعميق الصراع الطبقي الذي كانت تعمل عليها طويلا المربعات الأمنية المخصصة من قبل تلك الأنظمة. ولضحالة قياداتها كما ذكرنا سابقا، وجهالة الذين تأثروا بالفكر الشيوعي رغم نهوض البعد القومي وتناميه، عجزوا من أن يأتوا بالبديل:

 

1- عن المجتمع الطبقي الكوردي الذي أنهار، أتذكر وسيتذكرها الأخوة من جيلي، كيف أن الخدمات الجماعية والتألف في قرانا انعدمت فجأة، بعدما كانت تتم بين أهالي القرية الواحدة والمجاورة بدون مقابل، من مساعدة بناء دار إلى تصليحها قبل مواسم الشتاء، إلى التحضير لمؤونة الشتاء، وجمع الحصاد، والخدمات التي كان يشترك فيها الجميع، زالت ليس بين الأغا أو شبه الإقطاعي والفلاحين بل بين أبناء القرية ذاتهم، وحلت المصلحة والأجرة مكانها، فتأذى الفلاح الفقير أكثر بكثير من الأغا والفلاح الغني.

 

2- عن المفهوم القومي حيث التوجه الكوردستاني الذي أرسل إلى المرتبة الثانية بعد الأممية، وبجهالة غريبة، فأصبحت مجمل الحوارات والنقاشات في الاجتماعات الحزبية وبين المثقفين على الاشتراكية والنظرية الأممية، إلى درجة أصبح الحديث عن القومية الكوردية والمطلب الكوردستاني معيبا وعدت جهالة سياسية، بل وأصبحت الحالة المادية الثرية مخجلا. وكثيرا ما كان يتسنى النقاش على ما كان يفعله النظام الدكتاتوري بشعبنا.

 

وهذا الخلط ما بين الصراع الطبقي والقومي لم يخرج بمنهجية لتقوية النضال الكوردي كما تم في بعض حركات التحرر العالمية، كمواجهة الموجة القومية العروبية والأممية الشيوعية، بل ساهمت في إضعاف الكورد، قوميا واجتماعيا أمام محتليهم، وكانت أضحل من أن تفكر بإعادة أنتاج العلاقات بشكل يتناسب والنضال القومي الكوردي، أو حتى الطبقي، والتي عادة تدمج في مراحل النضال التحرري للشعوب، كما وأن الطرف الأخر من الحزب، كانت أعجز منها، لكنه على الأقل لم يساهم في توسيع شرخ الصراع بين الشعب الكوردي، وحافظت على البعد القومي، وأهم أسباب هذا العجز كان لغياب التراكم المعرفي والوعي العام وضعف الإدراك للعلاقات الدولية لدى القيادات الحزبية المنتدبة من قبل الغير، ولا شك لهذه المعضلات أسبابها.

لنتذكر الماضي عله ينفع:

الشعب يحلم ألا تتكرر تجارب تاريخنا المؤلم، وألا يكون الجاري تكرار للبعيد، فعندما نراجع صفحات ماضينا تتكدس أمامنا تاريخ الشخصيات الكوردية، العشائرية أو السياسية، مثلما أحتل في النصف الثاني من القرن الماضي الصراع الطبقي بين المجتمع الكوردي جل صفحات تاريخنا. وجل الأفراد الذين برزوا، كانوا ما بين الأميين والمتعلمين أو أشباه المثقفين، وبعضهم درجوا، جدلا، تحت صفة أشباه السياسيين، وكثير ما يبالغ البعض في وصفهم، ويتم تضخيم نضالهم ومستوياتهم الفكرية، علما أن معظم القيادات أصبحت خبيرة في الحنكة الحزبية، وضحلة في العلاقات السياسية، لذلك عند دراسة تاريخهم يلاحظ الانتهازية أكثر من فاضحة في علاقاتهم وأفعالهم.

 

وقد برزت دهائهم في العقود الماضية، ضمن مؤامرات المؤتمرات الحزبية، ودرجت ضمن خانة السياسة، وهي في الواقع نوع من أنواع الخدع الاجتماعية، أبدع فيها العديد من المثقفين الحزبيين الكورد، ومررت تحت خانة، انتهاز الفرص حنكة سياسية، فتناسوا سؤال ذاتهم، لمصلحة مَنْ كان يتم التلاعب: الشعب أم الذات؟ ألم تكن متاجرة بمكانة الحزب، وقضية الأمة، مثلما فعلها سابقا الحزب الشيوعي لمصلحة ذاتية أنانية، ولاحقا البعث لمصلحة القومية العربية.

 

وطوال هذه المسيرة ظلت قيادات الأحزاب الكورية توسع في الخلافات الحزبية والتي لم تكن لها أرضية فكرية، واليسار الكوردي توسع الشرخ بين المجتمع، الذي لا يزال يعيش الحالتين وبأعمق مجالاتها حتى اللحظة، إلى أن أصبح الشارع الكوردي لا يعرف ذاته إلا على خلاف مع الكوردي الأخر، إن لم يكن حزبيا سيكون طبقيا، وإن لم يكن فكريا سيكون اجتماعيا، ونستطيع القول إن منطق الاختلاف أصبحت سمة كوردية مميزة، كثيرا ما نخلق له تاريخا بيننا. وهذا ما يذكرني قول الفيلسوف اليوناني الغني عن التعريف (سقراط 470-399 ق.م) رائد منهجية استخدام الاختلاف لبلوغ الهدف، وأصبح ضحيتها “سيكون بالنسبة لي من الأفضل لو كان هنالك الكثير من الرجال الذين يختلفون معي بدلاً من أن أكون أنا وحدي غير منسجم مع نفسي” ولم ينتهز الفرصة في الوقت الذي وفرها له طلابه أمثال أفلاطون وزينفون، وفضل التضحية بالذات من أجل تنوير المجتمع، لكننا بعكسه كان يطمح لهدف بعكس أحزابنا الكوردية وقياداتها حيث الخلاف والاختلاف بحد ذاته الهدف، أقول قياداتها، لأن الحزب عرف بشخص أو في افضل الأحوال بعدة أشخاص قياديين، والقيادة بحزبه المسجل باسمه، وهذه إحدى مورثات الحزب الشيوعي.

 

ومن أغرب ما تبناه قيادات أحزابنا، الجدلية الضحلة، المنشورة من قبل الأنظمة الشمولية، إما معي أو ضدي، وأصبحت مجال حوارات وخلافات حادة بين شريحة واسعة من الحزبيين الكورد، والسياسيين المثقفين، يتقبلون الفكرة دون تحليل ودراسة، ويدعمونها كما يسقط عليهم من قبل أطراف كردستانية، وهنا ضاعت عندهم، ليس فقط منطق توعية المجتمع، بل توعية الذات، قد يفيدون طرفا سياسيا، لكنهم سوف لن ينقذوا المجتمع، ولا الشعب والأمة، ولا قضيتهم الكوردستانية.

 

وهم بعكس المثقف التنويري، صاحب الخطاب العقلاني؛ وبمعرفة أو إدراك جدلية الصح والخطأ ونسبيتهما، ووعيه يحرضه؛ قد يكون لا مع هذا ولا مع ذاك، وليس ضده أو صديقه، بل هو صوت الشارع، ومعاناة المجتمع وحامل لقضية شعبه كما يفهمها، ولن يتوانى من وصف ذاته، في حال الخطأ، كما وصف (ميشيل فوكو 1926-1984م) نفسه بالكاتب الفاشل عندما كان يحس أن كتاباته لا تثير الحدس السياسي وخيال الأديب.

 

أحيانا وضمن خضم هذه الخلافات الفكرية، والسياسية الكوردستانية، تدرج قضية صراع الشعب الكوردي مع الأنظمة الشمولية المحتلة لكورستان، والتي هي جدلية مغايرة، لا حياد فيها ولا استقلالية، تكون مهمة المثقف ليس فقط تنوير المجتمع، بل تجميع قوى الأمة لمواجهة الأعداء، ومن الخطأ تناسي هذه القضية، وتوسيع الشرخ بين القوى الداخلية، فالحياد هنا، حتى ولو اختلفت أساليب الموجهة، ستكون نوع من الخيانة، وأقله الانتهازية، وللأسف استخدمها البعض من القياديين مثلما يفعلها البعص تحت غطاء الوطن السوري، حتى ولو كان يتم التغطية عليها تحت حجج انتهاز الظروف أو العلاقات أو المواقف السياسية.

 

فالمأمول من المثقف التنويري قبل المثقف السياسي، لإزالة هذه السلبيات التي رافقت أحزابنا من خلال قياداتها، أو قياداتها على حساب الأحزاب، إحداث تغيير في مفاهيم المجتمع، ومحاولة إعادة تركيبة وعيه، وبالتالي إعادة إنتاج الأحزاب وقياداتها، دون تنازل لأي طرف سياسي، والحذر من الانحياز لطرف ما، والذي قد يغرقه في الالتزام بالإملاءات الحزبية، فيتهم بالانتهازية من قبل المثقف الحزبي السياسي، وبها ستستمر نفس السلبيات، وستتم التغطية على الأضرار التي لحقت بالقضية والمجتمع خلال العقود الماضية.

 

 

 

يتبع…

 

 

التعليقات مغلقة.