المجلس الوطني الكوردي في سوريا

من أين تأتي القيادات الحزبية الكوردية؟.. الجزء الثالث

149

تتمة لمجرى التفاهمات، وكنداء للأخوة في هيئتي المفاوضات الكوردية-الكوردية، محاولة فتح حوار بينكم كطرف موحد مع اللجنة الأمريكية، والفرنسية إن كانت موجودة، وتقديم طلب رسمي بذلك، بعدما تكونوا قد وضعتم مشروعكم، حول الاعتراف، بكم كهيئة سياسية، وبالمنطقة الكوردية من البعد السياسي الجغرافي، والحصول على ضمانة مستقبلية في المجالين العسكري والسياسي، وبعدها الاستمرار فيما بينكم.

 

بنينا هذا الطلب على ما نستشفه من مجريات الأحداث السياسية، وما تجري في الأروقة الدبلوماسية الأمريكية من مباحثات بين اللجان الأمريكية والتركية، وعلى خلفية مصالحها وعلاقاتها مع تركيا كدولة في حلف الناتو ومع الدول العربية كمصالح، وما يتوجب علينا ألا نعيد تجارب الماضي، وننغرز في نفس المستنقع الذي وقعنا فيه مرارا، أثناء صراعاتنا مع القوى الإقليمية، وبعدما كنا نحصل على مؤشرات بدعم خارجي، وعند المحنة كنا نجد ذاتنا وحيدون في ساحة المواجهة، وهو ما أدى بنا أن نتهم الأخرين بعدم المصداقية، ولم نحكم على ذاتنا بالسذاجة وضحالة المعرفة السياسية والدبلوماسية.

 

وهذه السذاجة هي التي رافقتنا حتى عندما أنتقل بعضنا إلى الخارج، وعشنا في المهجر، وحاولنا تشكيل لجان دبلوماسية مع الدول الكبرى، حينها شكلت السلطات إدارات ضمن سفاراتها، كانت من مهماتها مراقبة الكورد، ووظفت شخصيات قريبة من الوسط الكوردي، للقيام بمتابعة الذين نشطوا في الخارج، وعلينا ألا نجامل فقد كان بينهم مثقفون وسياسيون كورد، بينهم شخصيات معروفة، وكثيرا ما تمكنوا من قطع الدروب علينا بمساعدة النظام، في الوقت الذي لم تكن الدول الكبرى تعيرنا أهمية تذكر، ومن الغرابة أنه لم نبين ما فعله الوسط الكوردي بالكوردي تحت مسوغات لا تقل عن المسوغات التي نواجهها اليوم بين بعضنا، وبالألبسة التي نقدم فيه بعضنا للقوى الكبرى والإقليمية، حيث الخيانة أو إزالة الأخر غير المستحب منهم.

 

ولولا أن الإنسان الكوردي لا يزال يحمل صفة نبيلة، نابعة من الثقافة والأخلاقيات التي غرزتها فيهم الروحانيات الكوردية، وشذبت علاقاتهم الاجتماعية حتى بادت تعرف وكأنها جينات وراثية، قبل أن تزاح كثيره تحت تأثير ظهور الثقافة الروحانية الغريبة عنهم، أي ثقافة البداوة والمجتمع الصحراوي، المتعارض مع ثقافة المجتمع الحضاري، لواجهنا بعضنا إلى الدرجة النهائية، وهذه الجدلية الخاصية جلية في تعملنا مع كبارنا، إن كانوا زعماء عشائر غدروا بشعبهم، أو قيادات سياسية خانوا قضيتهم، والأمثلة عديدة في هذا المجال، لكنها تعرت في المجالات الحزبية على خلفية تأثير القوى الإقليمية، وإرضاخ القيادات للإملاءات الخارجية، وبعضها ناتجة من مصالح حزبية أو لنقل شخصية.

 

فكم من الزعماء والقيادات وعلى مر التاريخ الكوردي يتوجب إعادة كتابة صفحات تاريخهم، لكن وكما ذكرنا، النبالة الكوردية كثيرا ما تحيد مؤرخونا وباحثونا عن المواجهة وعرض الحقائق، وأغلبية الكتاب يجمدون أقلامهم مفضلين الصمت على نقد التجاوزات في تاريخهم، وأنا من بينهم أملا في تنوير المفاهيم وتصحيح الدروب بالوعي وتوسيع المدارك، إلى درجة كثيرا ما يتم الطعن فيهم على خلفية سكوتهم، وبالمقابل هناك شريحة متشربة الثقافة الدخيلة يتعاملون مع تاريخنا والعلاقات الاجتماعية والسياسية بانتهازية؛ يسخرون أو سخروا أقلامهم لغايات شخصية وليست وطنية، يزيدون من التحريف والتشويه الحاصل في تاريخنا من أبعاد الارتزاق، والبعض يضع لهذه تبريراتها.

 

ومنذ نشأة أول حزب إلى اليوم، وبدون التمييز، أثرت عوامل متضاربة على ظهور القيادات الحزبية الكوردية، معظمها ضارة، فجلهم كانوا من أبناء النخبة الاقتصادية القبلية في المجتمع الكوردستاني وليست على مستوى المنطقة فقط، فكما نعلم نحن الكورد مجتمع قبلي قبل أن نكون، جدلا، مجتمع إقطاعي، فيما إذا حللنا الواقع من أبعاد النظرية الاقتصادية الفلسفية الشيوعية، سنلاحظ أنه كان لشريحة أبناء الأغوات، فرصها في النجاح ومسك زمام القيادة، أو ما يمكن جدلا تسميتهم طبقة الإقطاع، ولا أظنها ناقصة، فالكل أبناء هذه الأمة، وجميعهم يحملون العاطفة القومية والوطنية ذاتها، لكن بحكم الإمكانيات المتوفرة على استمرارية التعلم؛ إلى جانب خاصية القيادة التي تربوا عليها منذ نعومة أظفارهم، برزوا في المجال الحزبي أيضاً. فالخيارات الحزبية بالأساليب التي تمت متأصلة من منابع المجتمع الكوردي القائم على العلاقات شبه الإقطاعية، من نزعة القيادة، إلى الصراع القبلي المنقول إلى الخلافات الحزبية، داخل الحزب الواحد أو خارجه.

 

وفي الواقع لم يكن هناك إقطاع في المجتمع الكوردي، بالمفهوم الذي عرضه ماركس ولينين، ولا يمكن مقارنة الأغوات الكورد لا من حيث الذهنية ولا الملكية؛ بإقطاعي روسيا أو الدول الأوربية الذين تم إخراج النظرية بشكل عام على بنية علاقاتهم الاقتصادية والاجتماعية، باستثناء ما تم ترويجه من قبل الحزب الشيوعي ليجد لذاته مبررا في الظهور، عن الاعتداءات التي كان يقال أنها تمت بحق الفلاحين، علما لو تم مقارنة المجتمع الكوردي بجميع الشعوب الأخرى، سنجد أن الكورد أقل منهم اعتداء على فلاحيهم، لأن معظمهم كانوا من أبناء عشيرته، وعليهم كان يعتمد عليهم في جميع تصرفاته، والمجتمع الكوردي لربما هو الوحيد الذي لم يعرف العبودية، ولا فرض السخرة على الفلاحين دون مقابل، في الوقت الذي كانت العبودية منتشرة ضمن المجتمع الروسي والأوربي والعربي والتركي وغيرهم، وفي القرى الكوردية كان بإمكان الفلاح مواجهة الأغا، وكثيرا ما تم، وكان بإمكان الفلاح الانتقال من قرية إلى أخرى وكان دائما وأينما حل، يحصل على نسبة من الأرض، ولا يعني هذا أنه لم تحدث تجاوزات ولم تكن هناك فروقات، والتي ستظل وستستمر على مدى التاريخ، فقط ستتغير الأقنعة، وحتى في الإيديولوجية الاشتراكية، العلمية أو الطوباوية، عندما يزول الإقطاع يحل مكانه رئيس الإدارة وهو بمثابة الإقطاعي أو الرأسمالي ولكن بتعيين، والإتحاد السوفييتي خير مثال، فقد كان منتشرا فكرة، مات القيصر وحل مكانه المئات من القياصرة، فرئيس كل دائرة كان إقطاعيا وقيصرا، وتلمسنا هذه الحقيقة على أرض الواقع.

 

( أتذكر في هذه المناسبة حوار جرى بيني وبين الأخ الدكتور غربي محمود أثناء دراستنا في موسكو، وكان حينها نائب رئيس جمعية طلبة الأكراد في الإتحاد السوفيتي، وذلك عندما قمنا نحن مجموعة من الطلبة الكرد القيام برحلة إلى عزبة كوركي المكان الذي قضى فيها لينين أخر أيامه مع زوجته كروبسكايا، وهي مزرعة رائعة بقصرها المنيف، كانت لأحدى كبار الإقطاعيين الروس زنييدا مَروزافا أرملة راعي الفنون الروسية الشهير سابا مَروزافا، وكانت تملك قرابة 35 ألف فلاح، وكما تعلمون فصلاحيات الإقطاعي الروسي كانت تصل إلى بيع وشراء الفلاحين مع الأرض، حتى بعدما أصدر قيصرهم الإسكندر الثاني وثيقة تحرير الأقنان في عام 1861م، لذلك فثروات إقطاعيهم كانت تقدر بعدد الفلاحين إلى جانب الأرض، والمكان تحول بعد موت لينين إلى متحف، وهو قصر في الحقيقة تحفة فنية معمارية رائعة الجمال من كل النواحي. وكنا أنا والأخ الدكتور غربي محمود لوحدنا في تجوال ضمن غرف وقاعات القصر، وفي لحظة توقفنا عند طاولة لينين ننظر ونتحدث عن التمثال الصغير الموجود على الطاولة، وهو لقرد ينظر إلى جمجمة إنسان يحملها في يده، وخلف الطاولة جدار زجاجي بيضوي التركيب، واسع ويشرف على برية مترامية جميلة، كانت حينها مزروعة بالقمح وفي نهاية فصلها. مال علي الأخ غربي وقال أنظر الفرق بين أقطاعينا وهذا الإقطاعي من حيث الثروة، أين هي وجه المقارنة، وجرى بعدها نقاش في هذا المجال).

 

مع ذلك ورغم غياب الإقطاع كمفهوم اقتصادي-سياسي وفلسفي-اجتماعي، إلا أنهم كانوا يحملون ثقافة القيادة، والمسؤولية، ولكن كثيرا ما حاولوا خلق التوازن بين مصالحهم وواقعهم من جهة، ومن جهة أخرى مواجهة السلطات الحاكمة والمربعات الأمنية التي كنت من أحد مهماتها الطعن في مكانة العائلات الكردية الكبيرة، اجتماعيا واقتصاديا…

 

يتبع…

 

التعليقات مغلقة.