المجلس الوطني الكوردي في سوريا

“نوروز والعمق الأسطوري “

124

مازال نوروز بمفهومه الشمولي يطرح كثيرا من الاسئلة المتداخلة وتتماس عميقا في أنماط تشكل الوعي الإنساني ، وذلك منذ اللحظات الاولى التي تلت – وايضا – مايمكن تسميته بشهقات الوعي البشري الأولى ، أي لحظة تمييز الإنسان لذاته عن الطبيعة ، وتحوله من طور التابع المتلقي بلا وعي كالجماد او الحيوان والنبات ، إلى لحظة إدراكه المتدرج في الوعي وإنفصاله عن الطبيعة ، لابل وهنا كانت النقطة / الركيزة الاولى حينما ادرك بقدرته على تطويع الطبيعة ببيئاتها ومن ثم تسخيرها لخدمته وتلبية حاجياته ، وبعيدا عن التنظير ، وفي الإستناد على مراحل تطور وعي الإنسان ، وبالتوائم مع غالبية النظريات والرؤى بمدارسها التي عالجت هذا الامر واستخلصت منها ما يدعم رؤيتها ، وفي عودة سريعة لتساؤلات العديد من الأصدقاء والمتابعين للشان الكردي في نمطية تكوين ومنبت تشكل وعيه وثقافته ، وبالتالي مدى التناغم والتجانس كداعم تطبيقي وكتعريف محقق للتراث وفهم الأسس التي بنيت عليها ما عرف كمصطلح بالميثولوجيا ، لتفصح عن ذاتها فتجاوب عن التساؤلات الكثيرة المطروحة ، والتي كنا نرتكز سابقا عليها في ردودنا الى المنقول الشفاهي المتوارث وقصصها المتقاطعة أحيانا مع ثقافات عديدة ، او مع سير وأغان شعبية مثل مموزيني – ممي آلان او حتى رستمي زال ، وبكل أسف فقد كان للوضع السياسي بأجزاء كوردستان رغم الطفرة العلمية وظهور العشرات من العلوم المساعدة لفهم والتحقق من كثير من الخطوات الداعمة والحاسمة للجدل حول – الأساس / الجذر الميزوبوتامي للثقافة الكردستانية ، وعليه بقيت تتبع التجاذبات والتموضعات الجغرافية والتي على ارضيتها تيهت ركائز مهمة في توكيد الإنتماء الكردي لبيئته وارضه الحالية هذه ، وكمثال على ذلك: اول نوطة موسيقية مدونة في التاريخ البشري والمعروفة بإسم أنشودة العبادة الحورية . هذه المفاصل الرئيسة والتي حاولت شخصيا منذ حوالي ٤٠ سنة العمل عليها وفق الظروف والامكانات التي كانت متاحة ، حيث اعتمدت فيها على بحث وتجميع قصص لعشرات الامثلة والحكايا الشعبية واجراء التقاص والتقارن النصي ، ومجموعها هي مضمون كتابي قيد الطبع وعنوانه ( ملامح ميثولوجية .. وجهة نظر في الذهنية التراثية الأسطورية الكردية .. دراسة مقارنة ) وعليه ! بقي هو ذلك السؤال المتكرر عن نوروز الحدث والمعنى ومعها كمثال مموزين ! هل هما فعلا قصص لشخوص حقيقيين ، إم انعكاس لفعل قيمة تمأسست عليها آفاق لوعي ميثولوجي اشتقت من عصارة التفاعل المجتمعي البشري والبيئة وكإنعكاس حقيقي لنمط الحياة المجتمعية وطبيعة الإنتاج بعلاقاتها مثل المجتمع الرعوي المتنقل – كوجر – او القروي المستقر – ديمانا – أو المديني ! وكلنا يتذكر بداية الصراع الرافدي بين دوموزي الراعي ودوموزي الفلاح على اينانا ، رغم تكامل النمطين وبالتالي الاندماج رغم الصراع في بوتقة ذات الثقافة بدورتي حياتها الموت / الجفاف الذي يقابلها العودة المتجددة للحياة ..والماء المطر ، وفي العودة الى ذات السؤال المطروح عن نوروز ؟ : هل ان نوروز وكعيد ؟ هو بالفعل ما يتم تداوله منذ القديم وفق سياقية القص والثقافة الشعبية المتناقلة شفاها والمغلفة رموزها قداسة لاتقبل الجدل فيها رعبا كرهاب او ترهيب ؟. فتمضي السريالية بقصتها الى الملك إزدهاك والثعبانين ( في توأمة مع حكايا ديو – التنين – والوحوش الخرافية ) ومن ثم ظاهرة الظلم والتنكيل والدمار .. الهلاك الذي لابد منه ان وجد ال – ديو – الوحش الأسطوري ؟ ! هذا النموذج تعرضت لموضوعها بنص مسرحي بعنوان – كاواي هسنكر – سنة ١٩٨٢ وقدمتا باللغتين العربية في دمشق والكردية في قامشلو وتلتها وفي ذات السياقية ، والتي اعتمدت في الأساس على ذات الفهم التي ازعم انها انتجت ذلك الوعي ، وقد أصبحتا فصلين رئيسيين ، لابل عدتا – حسبما أزعم – الركيزة الأساس لكامل ما توقعته استناجا وورد في مشروع كتابي المذكور اعلاه ، والتي طرحت فيها كإستناج جدلي بالإستناد على نسقية كما وسياق تطور المجتمع الإنساني منذ ازمانه السحيقة ، وعليه فمن الممكن أن تكون نوروز هي في الأساس واحدة من الركائز التي تطورت عليها آفاق الوعي البشري ومنتجاته الطقسية وبخاصية فصلية تتوائم من جهة ، كما وترتبط ايضا بتطور الحياة البشرية بعد اكتشاف النار وتطويع المعدن الذي تجسد في بطل نوروز كاوا وبمهنته الحدادة ومن هنا يمكن فهم بدايات وجود التخصص المهني / الحرفي حتى في الثقافة الكردية – زمبيل فروش ، ممي شفان ، ممي جوتيار – وجاءت متلازمة مهنة الحدادة بالنار وبطقسيتها الأسطورية ، ولتصاغ وفق نمط سرياليات أساطير التكوين واحتفاليات الإينوماليش السومر – بابلية ولكنها دخلت مرحلة جديدة في اواخر المرحلة الآشورية نتيجة الفظاعات التي مارسوها بحق الشعوب التي احتلوها من حرق وسلخ للبشر وهم احياء ، ومع انشاء التحالف الميدي / البابلي وسقوط دولة آشور بقيادة الملك الميدي كي خسرو والإحتفاليات التي عمت حينها وتمازجت مع النمط الميثولوجي / الطقسي ، لابل فقد تقمصته واندمجت بكليتها فيها وأضفت عليها خصوصيتها وليظهر بالدوام كعيد يجسد انتصار الخير على الشر ، وعليه فقد ذهب بعض التأريخيين الكرد باعتبار سقوط نينوى بداية للسنة الكردية . وباختصار ، وفي العودة الى نوروز ككلمة / مصطلح كردي مركب حيث تعني : نو جديد وروچ او روز اليوم .. هذا الإسم او اليوم الطقسي والذي دخل الإرث الميثولوجي من اوسع ابوابه وأصبح كعيد طقسي ارتبط بمفاهيم تكوين المجتمعات البشرية منذ لحظات انفصال الإنسان عن الطبيعة وتطويعه لها وبالتالي استثمارها .. وقد تراكبت في نوروز كل معاني التحول البنيوي للمحتمع وعلى ارضية صراع شرس بين البشر وقوى الظلام وقابل الظلام النور او النار ومع النار كانت الاكتشافات البشرية العظمى وايضا السيطرة المطلقة ومتلازمة التركيب الميثولوجي لنوروز وبطلها الحداد كاوا وإزدهاك / إژدهاك والذي تجسد بملك على شاكلة إنسان في جسده ثعبانان يتوجب تقديم أضحيتين بشريتين من الشباب يوميا حتى يسلم وإلا فسيفتكان بالملك الذي هو في الأساس ضامن لتوازن الحياة واستمرارها حسب الأسطورة ، وعليه يمكننا القول بأن نوروز كأسطورة وحسب التحليل الميثولوجي وآليات تشكل وعي الفئات – الشعوب هو نسق لعيد طقسي ارتبط بنمط انتاجي / حرفي وببيئة ومناخ وفصول سخرت كل امكانياتها الحرفية في تطوير النمط المعيشي المحدث وعليه فان ذات الفصول الأربعة بدورة مناخها تكاد ان تتشابه سيما ان غالبية المجتمعات حافظت على نسقيتها الزراعية – الرعوية ، وبقيت خاضعة لتراتبية طقوس النقيضين اي الحياة والموت ومتوالية العيش والكلأ بالجفاف واليناع وباختصار : بقيت الإحتفاليات الطقسية العليا هي ذاتها في كثير من مفرداتها كما أعياد الأكيتو – الإينوماليش و ايضا إينانا ودوموزي الراعي والفلاح والموت الطقسي وإن اختلفت فيها بعض الأسماء او المؤشرات ، ويلاحظ في السرد الشفاهي لأسطورة كاوا طغيان القوة البدنية وتحكم الإنسان الذكوري اي هيمنته على المهن والأسرة خاصة بعد استخدام الادوات المعدنية وتحول النار الى اداة مطوعة ومتوفرة .. وباختصار يمكننا القول بأن نوروز هو عند غالبية الشعوب يعني اليوم الجديد ، وفي تراثنا الكردي عشرات من الأمثلة والحكايا التي تشي بطابعها الميثولوجي ، وأيضا ملاحم اعتمدت الزمن الأسطوري ، كما لقاء مم وزين الاول في نوروز ، أما لماذا اعتبر كرديا كعيد قومي ؟ فهي ترتبط كما أسلفنا بالعهد الآشوري وسقوط مملكته ، بيد التحالف الميدي – البابلي – وآخرون والذي كان بقيادة الملك الميدي كي خسرو – كياكيس كما تسميه وثائق اخرى سنة ٦١٢ ق . م . وفي الختام وبايجاز شديد : أن نوروز الطقسي سابق بكثير على الطابع القومي رغم توافق الحدث التاريخي الموثق الذي ذكرته . واحتفالياته الطقسية بقيت في إطارها العام مقولبة ضمن سياقيات احتفالات الإينوماليش وإعادات لصياغات أسطورة التكوين للمتجدد دوما على حساب القديم .

 

التعليقات مغلقة.