سم سقراط وأعداء الكورد
ما عاناه ويعانيه الشعب الكوردي من الأنظمة السياسية، وأخرها سلطة بشار الأسد، تعيدنا إلى مراجعة أحد أهم أحداث الماضي السحيق، صراع سقراط مع سلطة أثينا السياسية، التي لم ترق إلى سويات استيعاب أفكاره وفلسفته، ومعها الشريحة المدركة التي وجدت أن مصالحها تتهدم بحضوره وانتشار فلسفته، فكانوا يرتعبون من تثقيفه النوعي لشباب أثينا ومقدونيا وإسبارطة، الحاملة لروح التجديد وبذور الحضارة، المنتقلة منذ حينها من جيل إلى أخر، دون أن تخمد فيها روحه المواجهة والطموح نحو الأفضل، كان بينهم أبناء الطغمة الحاكمة وأعضاء البرلمان، وقادة الجيش. الجدلية ذاتها تتكرر اليوم مع الشعب الكوردي الطامح إلى الوطن الذي سيصان فيه أبعاده القومية، بعدم التهاون في مواجهة إملاءات الطغمة الحاكمة في سوريا، ومواصلة الصمود في وجه الأنظمة الاستبدادية الأخرى المعادية للدساتير الحضارية والمحتلة لكوردستان.
فعندما تجرع سقراط السم بطواعية مبنية على إرادة الصمود، كان متأكداً من أن مفاهيمه تجاوزت مرحلة احتماليات القضاء عليها، فلم يبالي بجسده مادة، بقدر ما ثمن مفاهيمه وأفكاره المنتشرة والتي كانت تضعضع مكانة أعداءه من الشريحة السياسية، مدركاً أن تلاميذه يحملونها بعمق وعي، وكلية الاستيعاب، وكان بينهم أفلاطون وزينفون وغيرهما الذين نشروها بكل تفاصيلها، بل وساهموا في عرض المزيد من الأفكار والفلسفات التي نهشت في النظام السياسي حينها، الفلسفة التي أصبحت ركيزة، لانتشار المفاهيم التنويرية بين الجيل الشاب للمناطق الثلاث، وبداية لنهوض الحضارة اليونانية، وظهور الإمبراطورية التي قضت، بعد عقود قليلة من موت سقراط، على الشريحة السياسية الطاغية، والمعارضة لمداركه الفكرية التنويرية والتحررية. فتناوله لجرعة السم كان نيابة عن الحركات والشعوب المناهضة للأنظمة الفاسدة، بعدمية رضوخه.
وكمقارنة جدلية، وحصر الزمن واختلاف المفاهيم، والغايات التي تلتقي والطموح إلى الحرية، يمكن القول إن تمسك الكورد بروح المقاومة وعدم الرضوخ، رغم المآسي والكوارث التي حلت بهم، هي من مورثات إحدى شعاب تلك المفاهيم، والثقافة الأبية على الاستسلام للطغاة والأنظمة المستبدة.
فبين ما تم في القرن الرابع قبل الميلاد، وبين القضية الكوردية وعدالتها وسوية انتشارها عالميا، والتي تجاوزت قدرات عبثية الأنظمة المحتلة للجغرافيات الكوردستانية، حتى تلك المدعية بالوطنية، رباط روحي؛ فرضت في الحالتين نزعة عدم الاستسلام، فمثلما حينها لم تتمكن الشريحة السياسية تحجيم مفاهيم سقراط، كذلك اليوم الأنظمة المحتلة لكوردستان، وبينهم نظام الأسد، لم تعد قادرة التعتيم على الحقائق وتحريف الصفحات التاريخية الصحيحة، بل وقد بدأت مرحلة إزالة المتلاعبة بها و تنقية المحرفة بيد الكتاب العروبيين أو ما تم ضمن أروقة المربعات الأمنية. فحديث بشار الأسد اليوم على قناة روسيا 24 وتحريفه للتاريخ الكوردي في جنوب غرب كوردستان، وتبجحه من خلف بوتين؛ بالانتصارات، إلى جانب غيرها من التصريحات والتلاعب بالخدع السياسية، لن تمكنه، ولا غيره من الأنظمة المماثلة لنظامه، من إلغاء الحقائق التي أصبحت في متناول الإعلام العالمي؛ بل وإعلام السلطات المناهضة لحقوق أمتنا، فمثلما ترسخت مفاهيم سقراط، تظهر وطنية الكورد؛ ومثلما تبينت مصداقية أفكاره الحضارية؛ تظهر حقيقة الرباط التاريخي بين الديمغرافية الكوردية وجغرافية جنوب غرب كوردستان المتكونة منها شمال وشمال شرق سوريا.
فبما يقدمه اليوم حراكنا الثقافي رغم إمكانياته البسيطة مقارنة بثقل قضيتنا وديمغرافية أمتنا، والتي لهذه أسبابها لسنا بصددها الآن، ومنها شريحة كتاب (الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الكورد في سوريا) وعن طريق، الإعلام الحر، والأقنية المتوفرة، من خلال الإنترنيت، وحيث المواقع، ووسائل التواصل الاجتماعي، والندوات والمؤتمرات، وغيرها من أساليب النشر، تم قطع سبل عديدة أمام من عتموا على قضيتنا خلال القرون الماضية، وحدد محاولات كل من حاول تشويه تاريخنا، والقضاء على مطالبنا، وتكاد لا تختلف عن محاولات سقراط وتلاميذه في تغيير منهجية سياسي أثينا قبل قرابة 2300 عام. والمؤدي حينها بعد موته ليس بكثير، نهوض الجيل الجديد في أثينا، وأسسوا حضارة وإمبراطورية عظيمة في تاريخ البشرية.
تحمل الحركات الثقافية التنويرية في العالم ليس فقط مفاهيم سقراط، بل روح المواجهة والموقف، المترسخ بتناوله السم طواعية مفضلا على الهروب من السجن، المنتقلة من حينها إلى اللحظة على أكتاف أجيال عديدة، إلى أن أصبحت محكمته والحكم الصادر بحقه وصمة عار في جبين جميع الأنظمة السياسية المستبدة ومنافيقها.
ولنكن على سوية ما قدمه الفيلسوف العبقري والشجاع، على حراكنا الكوردي في سوريا الانتباه بعدم السقوط في الخطأ الذي يكمن في التنازل عن المطالب القومية في سوريا، كشعب يعيش على أرضه التاريخية، وعدم الجلوس على طاولة الحوار مع سلطة مجرمة كسلطة بشار الأسد، بدون ضمانة دولية (روسية أمريكية) والتي بدونها سنخسر كحراك وشعب كل ما كسبناه داخليا وعالميا.
فالدخول في حوار مع سلطة دمشق الحالية، بدون إقناع روسيا مسبقا، بالمشروع الكوردي والذي يجب أن تكون الفيدرالية أساسه، أو الابتعاد عن التحالف الأمريكي، ستمهد لعودة النظام الشمولي المجرم على المنطقة الكوردية، الذي سيعيد الماضي بشكل أكثر فاشية وطغيانا.
المعادلة ذاتها تنطبق في حال الحوار مع أطراف المعارضة السورية، وفي مقدمتهم الإتلاف الوطني السوري.
وهنا الكلام موجه إلى الطرفين الكورديين اللذين يتعاملان كل من جهته وعلى انفراد، بدون توافق:
أولا، مع الأطراف الأخرى من الحراك الكوردي.
ثانيا، بغياب مشروع محدد متفق عليه، يعكس متطلبات شعبنا.
فكل من لا يثق بثقل أمته، ومنطق النظام الفيدرالي، كنظام وحيد يحقق مطالب شعبنا، ضمن أي حوار داخلي أو دولي، تحت حجج طوباوية الطلب، عليه أن يدرك أن أي مطلب كوردي أخر، قومي، سياسي أو ثقافي، أو غيره، وتحت صيغة مطالب الشعب الكوردي سترفضها هذه السلطة والسلطات السورية المحتملة قدومها كبديل عن سلطة بشار الأسد، ولن يكون هناك على طاولة الحوارات، سوى البند المتعلق بحقوق المواطنة، ولربما السماح بفتح مدارس خاصة للغة الكوردية غير مدعومة من السلطة، وإن تم إدراجه ضمن الدستور فستكون محصورة في مناطق جد ضيقة.
وليدرك الجميع أن الدستور السوري القادم، بدون اتفاق كردي على المشروع المذكور، سوف لن يتم فيه ذكر لأسم الشعب الكوردي ولا المكون الكوردي، بل المواطن السوري الكوردي.
فما قاله اليوم بشار الأسد، والتصريحات المشابهة لها من إدارته، تثبت أن مفاهيم البعث وسلطتي الأسدين والسابقة لهم، ومعظم الأحزاب العروبية في سوريا، عن الكورد في جنوب غرب كوردستان، لا تزال هي ذاتها، ولم تؤثر فيهم سنوات الحرب، ولا الدمار، والمآسي البشرية في سوريا، وستظل العنصرية في أبعد مجالاتها بل وستضاف إليها نزعة الإجرام بحق المخالفين لهم.
يتبين أن الحرب المذهبية، والأهلية، والصراعات السياسية، على مدى السنوات التسعة السابقة، خلقت نهجا فكريا-سياسيا أكثر بشاعة من الماضي، ليس فقط ضد الشعب الكوردي، بل ضد المكون العربي المخالف، وضد الأقليات والمذاهب غير السنية والعلوية، أي أننا في سوريا كنا نعاني من منهجية سلطة شمولية استبدادية، ثقفت جماهيرها، وعلى مدى عقود طويلة، على التحايل، والحقد وكراهية الأخر بغطاء الدفاع عن الوطن العربي، ومحاربة الحركات الكوردية، تحت غطاء التهم الكيدية، كالانفصالية، والتعامل مع الصهيونية العالمية، وغيرها، والتي على أسسها غرزت الصور النمطية المشوهة عن الكورد بين المكون العربي، لتحقنهم ضد الكرد ومطالبهم القومية، إلى أن أصبحت إتهام حراكهم بالانفصاليين جدلية مفروغة منها، والغريب أن هذه النزعة العنصرية مستفحلة بشكل خاص بين المستعربين من السوريين، كثيرا ما ترفضه المكون العربي الأصيل.
وستظل نتائج تضحية سقراط اليوناني وجرعته دون منفعة لأمتنا، وقضيتنا في جنوب غرب كوردستان، فيما إذا لم نأخذ العبرة من كل ما حاط بها من مفاهيم، وغايات، وجرأة المواجهة، ووضوح الموقف ووحدة المطلب، أو على الأقل عدم التنازل عن الأساسيات القومية والوطنية، وفي جل هذه ستلام أو ستوصف حراكنا الثقافي قبل السياسي، فعليها تتوقف تنوير المجتمع، وتصحيح مسارات الثانية، خاصة ونحن في مراحل توسيع الوعي، وتعميق المدارك، واللحاق بأفكار الأنظمة الحضارية خاصة المعنية بالحرية وتحرير الشعوب.
– نشرت ككلمة التحرير في جريدة (بينوسا نو) لسان حال الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، العدد 90.
التعليقات مغلقة.