محمود عباس :الفوضى الممنهجة في جنوب غرب كردستان
خلقت أمريكا الفوضى في المنطقة الكوردية وبمنهجية خاصة، أعتبرها البعض صفقة مع عدة أطراف على رأسهم روسيا، تلقفتها الأخيرة لئلا تستأثر بها تركيا، وغايتها إنجاح صفقة إدلب-عفرين-شرق الفرات، وأعطيت مقابلها للإدارة الذاتية ضمانات مبطنة لا أسس سياسية لها، لا تزال محصورة على الأبعاد العسكرية، مع تهميش للقوى السياسية الكردية الداخلية والخارجية.
ورغم أن الأمريكيين والروس وضحوا لقيادة قوات سوريا الديمقراطية أجزاء من الخطوط العسكرية العريضة، وذلك بعد تلطيف الرئيس ترمب لقراره، وبدأ الدوريات الروسية-التركية المشتركة، إلا أنهم استمروا في التعتيم على المستقبل السياسي للشعب الكوردي.
فحتى الآن لا يستطيع أي طرف من أطراف الصراع السوري تحديد معالم المنطقة الكوردية بعكس السورية والتي أصبحت أكثر جلية، فهي تبدوا شبه واضحة من الخارج لكنها في الداخل أكثر من معقدة، فمن جهة لا يمكن أن تظل عفرين أو جرابلس أو سري كانيه أو المدن الكردية الأخرى المحتلة تركيا مع مرتزقتها على ما هي عليه، وقد أدرجت حلها تحت عامل الزمن المتلاعب عليه أمريكيا وروسيا، ومن جهة أخرى فرضت على الإدارة الذاتية وقواها العسكرية تقبل الاتفاقية الروسية والبقاء في الحاضنة العسكرية الأمريكية، تمتصها تركيا وبامتعاض، مع العمل وعلى كل المستويات لإنجاح مشروعها التوسعي.
وراء الفوضى الظاهرة، وإطالة الفترة الزمنية لحل الإشكاليات، تختفي مسألة الاتفاقيات الجانبية ضمن الأروقة الدبلوماسية غير المعلنة، محاولات الحفاظ على التوازن في الصراع بين القوات الأمريكية-الروسية، رغم تنافس مصالحهما في المنطقة، والتي لا بد منها، وهي من ضمن استراتيجيتهما العالمية، وكثير ما يتم تنازل في منطقة مقابل أخرى، لأنهما يدركان وبدقة نتائج تصعيد الصراع وغياب التوازن، ولا يستبعد أن ما جرى في شرق الفرات وعفرين وتخلي أمريكا عن مشروع الفيدرالية الكوردية درجت تحت هذه المعادلة، مثلما تمت في العمليات التي أقدمت عليها أمريكا في منطقة إدلب ومن ضمنها تصفية البغدادي، ونحن هنا لا نتحدث عن العوامل الخارجية المؤدية إلى بقاء القوات الأمريكية في شرق الفرات، مثل حماية إسرائيل وغيرها.
بعد مرور سنوات، وعقد العشرات من المؤتمرات والحوارات، لإدامة الصراع في سوريا، وجلب الألاف من التكفيريين، ووضع قضايا ثانوية أمام المصيرية، كالتي تجري اليوم في جنيف حيث الحوار على كتابة الدستور بدل إسقاط النظام، بدأ التلاعب بالقضية الكوردية في جنوب غربي كوردستان، وعلى مراحل، تخللتها صفقات دولية، تبينت من خلالها مدى بروز ثقل المنطقة من عفرين إلى ديركا حمكو الجيوسياسي قبل الاقتصادي، ليس فقط ضمن سوريا، بل على سوية العلاقات الإستراتيجية، الأمريكية الروسية، وحيث مصالح القوى الإقليمية المرتبطة بهم، المنطقة التي كانت مهملة داخليا ودوليا حتى قبل سنوات الحرب السورية، وتحولت لعوامل عدة إلى إحدى أهم المناطق الإستراتيجية للدول الكبرى قبل الإقليمية في الشرق الأوسط.
وليتم التعتيم على ما قيل سابقا على الإعلام أو خلف الكواليس عن القضية الكوردية ، وما يجري الآن، خلقت فوضى عسكرية على الأرض، ومثلها سياسيا ودبلوماسيا في المحافل الدولية، فلا الأمريكيين كانوا في الواقع يودون الخروج من شرق الفرات، ولا الروس كانوا يتلذذون بالاجتياح التركي لعفرين، ولا مثلها في منطقة سري كانيه، لكن أهمية المنطقة فجأة أثارت الخلافات ما بين الدولتين، ربما على خلفية الضغوطات الإقليمية، أجبرتا على القيام بخطوات تكتيكية في جغرافية لا تكفي لتحرك أبسط القطع العسكرية لهما، ولذلك نلاحظ أن اعتمادهما في كليته على الرسائل المبطنة حيث الإملاءات السياسية الدبلوماسية، قبل أن تكون مستندة على السيطرة العسكرية. ولعدمية رغبتهما بلوغ اتفاق فيما بينهم، على القضية الكوردية، بعضها على خلفية الطبيعة السياسية للمنطقة، يتم العمل على خلق الفوضى، وضبابية الاتفاقيات والتعتيم على الحوارات، وتمرير الزمن، وإلا فمن اللامنطقي أن تظل القوات الأمريكية في تنقل شبه دائم ما بين قواعد جديدة وقديمة، وتعود إلى مناطق لا تبتعد سوى كيلومترات عن القاعدة الروسية، وحيث تمر بجانبها الدوريات التركية الروسية المشتركة، بعدما تخلت أمريكا عن اتفاقيتها مع تركيا وسمحت للروسية التركية بالتنفيذ على الأرض أو ما يقاربها، لأنه يظن أن أمريكا لم توافق على بعض النقاط فيها، كالتمدد التركي إلى ما بعد سري كانيه وأعمق من 20 كيلومتر ما بين كري سبي وسري كانيه.
فكثيرا ما يتحير المحللون السياسيون في طبيعة العلاقات العسكرية بين كل هذه القوى، وكيف تتعامل، وماذا يتوقع منها، والجميع على قناعة تامة أن ما يجري حالة استثنائية مؤقتة تدل على أن هناك جمود في الحوارات السياسية وليس عدم اتفاق، وفي مثل هذه الحالات تبدأ الأطراف بتمرير الزمن، أو كما يقال في الأروقة السياسية الوقت كفيل بحل الإشكاليات، وهذا بالضبط ما طبق في الصراع السوري دون الاكتراث بالكوارث والمآسي، طموحهم كانت مركزة على بلوغ مرحلة الإنهاك التام، واليأس الكلي للشعب والقوى المتحاربة، ليكون من السهل وضع الحلول الملائمة لمصالحهم وفرضها عليهم.
ليس فقط تركيا هي التي تخطط لهذه الفوضى، بل هي من مصلحة معظم القوى الإقليمية، ومن ضمنها المعارضة السورية العروبية التكفيرية، والأغرب أن بعض الأطراف الكوردية السياسية راضية عنها، رغم أنها لا تملك أية قوة لفرض شروطها أو حتى التدخل أو أبداء الرأي في مجريات الأحداث، ولا نستبعد أي طرف كوردي سياسي بشكل أو أخر عن هذه الفوضى الخلاقة، والتي يتأذى منها الشعب الكوردي قبل الشعوب الأخرى في جنوب غربي كوردستان، لأنه إلى جانب الدمار والكوارث يخسر الأرض والقضية…
يتبع…
التعليقات مغلقة.