نتحدث، عن الشوارع الملتهبة، وليس العابثين بها، عن الثورة أو نواتها الملتهمة ساحات شرق الأوسط، والتي ستستمر لعقود عديدة؛ عن الثورة التي تحمل قضايا الشعوب القومية والدينية وتلاحمها مع المآسي الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية للمجتمعات المعانية، والتي لن تبلغ على الأغلب قضية مداها دون الأخريات، نتحدث عن القضية الكردستانية، والتي كانت محصورة ضمن جغرافيتها، وبين الأمة الكردية والأنظمة المحتلة، واليوم انتقلت إلى المجالات العالمية، ولتصبح إحدى أكثر القضايا المثارة في الساحات الثائرة، وتبينت أنه لا يجرى حوار دولي حول المنطقة دون أن يكون للكرد حضور كشعب أو قضية.
تدرك القوى التي ركبت موجة الثورات السلمية، أنها مهما حولت تحريفها لغربلة الشارع، وخلق الصراعات المذهبية والإثنية، لن تتمكن من تصعيد الخلافات المصنوعة سابقاً بين شرائح المجتمع أكثر مما كانت قبل الثورة.
جميعنا يعلم كيف تبوأتها القوى الفاسدة وهي في المهد، وعرقلت مساراتها، وستقوضها كلما سنحت لها الفرصة، مثلما تفعلها اليوم في شوارع لبنان والعراق والجزائر وإيران وغيرها، وستهيمن عليها على مدى سنوات إن لم تكن عقود قادمة، لأنها جزء من الأنظمة المطالبة بهدمها، ستأخذ زمام السلطات ولربما بشكل ديمقراطي في المراحل القادمة، مثلما حدثت في مصر وتونس والسودان والجزائر والعراق، وستتباهى بها وستظهرها على أنها خرجت من أحضان المجتمع، لكنها ستظل من ضمن القوى المرفوضة من الجيل الثائر، فثقافة الأنظمة أفرزت شرائح موبوءة عديدة، نظمت ذاتها على مدى العقود الماضية.
والحراك الكردي بأخطائه وإيجابياته لم يستثن من هذه المسيرة، وقد ابتلي شعبنا الكردي بمجريات الأحداث وبشكل واسع، إن كان على خلفية أخطاء الداخل، ولربما بعضها بدون وعي وهذه أخطر من حالة الوعي، أو من الخارج المتربص بالأمة الكردية والتي كانت السباقة في الثورات السلمية، وثورة 2004م خير مثال، فقد كانت نقلة نوعية لقضيتنا بنقلها إلى سويات ثورة على النظام، فرغم صمت الشارع العربي، لكن الثائر الكردي على نظام له تاريخ في الإجرام، تتحكم فيه مربعات أمنية كانت مهمتها قمع الفرد والمجتمع بدون هوادة، أيقظه؛ ونبه الشعوب المجاورة على أنه بالإمكان تغيير الواقع بالطرق السلمية، خاصة عندما تتعلق الإشكالية بالأنظمة.
القضية الكردية هي الأكثر رهبة عند السلطات المرتعبة من القادم، وهي أضخم من الفلسطينية-اليهودية، رغم ما حصلت عليها الأخيرة من الدعم والمساندة، في الوقت التي ظلت الكردية في العتمة على مدى قرن وأكثر، والتي نستطيع أن نقول التلاعب بالفلسطينية واستغلالها من قبل السلطات العربية والإسلامية الشمولية، جلها كانت لتمرير مصالحهم قبل أن تكون معالجة لها.
أما القضية الكردية لا تزال محصورة بين الأمة الكردية والأنظمة المحتلة لكردستان، وصراعنا ليس مع شعوب المنطقة، رغم تجاوزات شرائح منهم وانحرافات شخصيات شاذة أو ملوثة فكريا، الذين تحركهم الأنظمة الشمولية وتدفع لهم وبهم لنشر ثقافة الحقد وكراهية الأخرين، وتحاول نقل الصراع السياسي إلى صراع ثقافي بين الشعوب تكون محورها التاريخ والجغرافية، وهذه هي التي حصلت للقضية الفلسطينية، فقد نقلتها الأنظمة العربية من صراع بين القوى السياسية إلى صراع بين الشعبين، وكان بالإمكان تكوين دولة مشتركة أو دولتان متجاورتان على أرض معروفة لمن هي، ولئلا يتم الحل طرحوا مفهوم الصهيونية العالمية، وأن إسرائيل لا تمثل الشعب اليهودي الذين منهم معظم الأنبياء، وعنهم تتحدث الكتب السماوية الثلاث، وتاريخهم تعوم على تاريخ معظم شعوب المنطقة، لذلك حرفوا الحقائق، وشوهوا العلاقات، وقطعوا كل الاحتمالات.
وفي فرضية الشعب الإسرائيلي لا يمثلون اليهود الأصليين، فهل العرب المستعربين الذين بينهم من جميع الأجناس مثلما هي بين اليهود، وإن كانت اللغة هي الجامع، فالعبرية تجمعهم أيضاً. هذه الخدع هي الجارية على ساحة كردستان وفي أروقة الأنظمة المحتلة، فهناك من يحرف قضية الأمة والشعب مع السلطات إلى الصراع بين الأنظمة وبعض الأحزاب الكردية من جهة وبين الشعوب من جهة أخرى، والبعض منهم يلغي الوجود الكردي التاريخي على أجزاء من جغرافيته، ويقدمون الكرد كمواطنين غرباء عن المنطقة، وبالتالي يحالون حل القضية الكردية كقضية مواطنة وبمنة، بل وبعض الأنظمة تتردد فيما ستعترف بهم أم لا.
من الخطأ الفادح وفي هذه المرحلة تقبل اليأس، والتخاذل أمام المصائب، بل علينا أن ندرس الواقع بشكل أعمق من الأمور السطحية، وننظر إلى ما ستتمخض عنه حوادث اليوم، وبتحليل لمجريات الإحداث نلاحظ أن قادم مبهر تنتظر أمتنا، وجميعنا نرى كيف أن القضية الكردية تكاد أن تتجاوز اليوم معظم الحواجز التي صنعتها أمامنا المحتلون في العقود الأخيرة، ولا نستبعد أن محاولات تشويه التاريخ والعلاقة بين الشعب والجغرافية زالت أو اضمحلت، بما راجت على الإعلام العالمي، وحيث الضجة المتجاوزة كل التوقعات، إلى جانب دعم المنظمات الإنسانية والعديد من السياسيين والإعلاميين العالميين، حتى ولو أن البعض يتوقع أنيتها.
ولكن ما تم البحث فيه ضمن الأروقة الدبلوماسية رغم الغياب الكردي، غرزت حقائق وخلقت وثائق رسمية لا تستطيع أي من الأنظمة المحتلة لكردستان تجاوزها في حال تمكنا من خلق حراك على مستوى قضيتنا، ولهذا تتصاعد يوما بعد أخر كمحاولات استباقية الالتفاف على القضية، وعرض الكرد كشعب صاحب قضية وحق، والحراك الكردي كمتهم أي كان نوعه ومنهجيته في النضال، وما يجري من محاولات التفضيل بين طرف كردي وأخر ليست بأكثر من تلاعب وخباثة، وصفحات التاريخ تثبتها، وأخرها ما يجري اليوم في منطقة عفرين، والتي هي خير مثال على أن العلاقة مع الحركات الكردية خط أحمر، إما التبعية أو العداوة.
فلم تعد تجدي نفعا كل الكتابات المحرفة عن تاريخنا في جنوب غرب كردستان، فقد تبينت للبشرية العلاقة بين الشعب والأرض، وظهرت مسارات التعريب والتهجير القسري، وما تحاول السلطة التركية القيام بها بمساعدة مرتزقتها من القوى المسلحة التكفيرية العروبية من عمليات التطهير العرقي والتوطين، أصبحت واضحة للعالم. ولذلك فنحن أمام معادلتين: خسارتنا الأنية وبقائنا على خلاف وفي تشتت يتقدمنا حراك هزيل وأحزاب بلا وزن، رغم صعود القضية إلى المستويات العالمية. أو تجاوز خلافاتنا، وتوعية ذاتنا لنكون على سوية احتضان القضية، ومحاورة القوى الإقليمية والدولية، ونجاحنا مستقبلا يستند على هذا البعد الداخلي.
جنوب غرب كردستان بل وكل كردستان تواجهها تغيرات مصيرية، وفي الواقع ثورة تجري من تحت الرماد، فقبل أن نطالب بعضنا ككرد، بعدم اليأس من مجريات الواقع على الأرض، والتي تكاد أن تكون شبه كارثية، خاصة من الناحية الديمغرافية، يجب أن ننظر إلى جنوب غربي كردستان والتي أصبحت ذات أهمية ومركز اهتمام الجميع، ولا نظن أن منابع النفط هي التي تجذب أكبر قوتين على الأرض ليكون بين قاعدتيهما عدة كيلومترات، ولم يحدث مثلها في التاريخ.
إلى جانب القوى الإقليمية، المتصارعة على أرضها من جهة والمتعاملة بسلام في منطقة لا تبعد عن الأولى إلا بمسافات قصيرة، وبعضها تحاول الاختلاس من أمريكا وروسيا قدر ما تستطيع، كتركيا التي تعمل المستحيل لصنع قبرص ثانية، سكانها من العرب الموالون لها، والسلطة تتعامل مع تركيا للعودة بمربعاتها الأمنية، وإيران تبحث عن مطامعها، والكرد والأقليات الموجودة على الأرض، يتجولون بين تلك القوة التي من الممكن أن تتلاقى مصالحهما، وهم أضعف الجميع حاليا، يلهثون في كل الاتجاهات، بعدما تكاد أن تنعدم الثقة بالجميع وحتى بالذات، وهنا مكمن الخطر، فاليأس يقتل القضية قبل الفرد، ولهذا فمهمتنا في هذه المرحلة توعية الذات، وأخذ التجارب، ومحاولة تجاوز المحنة، والإيمان بالقادم على أن الشعوب الثائرة ستنتصر، وقادمنا أنجح مما يظهر، لا أستبعد فيدراليات كردية ليس فقط في جنوب غربي كردستان بل في جميع الأجزاء، لربما البعض سيقول أنه حلم، لكنني أراه واقع مستقبلي لا محال.
وبوادر النجاح ظاهرة على الساحة، والمؤشرات عديدة، فقد أفرزت قضيتنا كثورة شريحة من المثقفين الواعين لها كبعد وطني وليس حزبي، وبعضنا أدرك أن وعينا السياسي ليس على مستوى القضية ولا بد من معالجتها، كالطبيب الذي عرف العلة، ويحتاج إلى الوصفة، ولا نستبعد أن الاهتمام العالمي سيجبر البعض منا ليتجاوز خلافاته، وسيوقظ أخرين من سباتهم الذهني، ومجموعة منا سيبينون للأنظمة المحتلة لكردستان على أننا ندرك ونعمل أن قضيتنا ليست قضية مواطنة بل قضية أمة وجغرافية، وتاريخ، ودولة.
التعليقات مغلقة.