الكاتب : يوسف حمك
قبل أن تهم الطائرة بالإقلاع ، جلست بجانبي امرأةٌ في العقد الرابع من عمرها ، بياض بشرتها من العيار الثقيل ، ممشوقة القوام ، خصلات شعرها الفضية متسربلة على جبينها .
ملأتني رغبةٌ ملحةٌ لأسألها عن وجهتها . لعلها تقوم بدور الدليل في المطار لترشدني .
إلا أن جهلي بلغتها أحجم مسعاي ، و ألجم لساني .
بدأت أنظر من نافذة الطائرة للأرض و كيف تبدو ماعليها كخطوطٍ و أشكالٍ هندسيةٍ غير واضحة المعالم .
للغيوم و نحن نخترقها دون عناءٍ ، فنسير فوقها ، لأكوامها الناصعة المكدسة فوق بعضها …..
كل شيءٍ نراه من النافذة مشهده رائعٌ …
أخلد للنوم بصحبة الأحلام تارةً – و أنا محلقٌ في الجو – فأصحو تارةً ، كما غيري يخلد و يستفيق أيضاً .
كان الصمت سيد الموقف في رحلتنا الهادئة ، و بغياب الحديث الصاخب .
وحدها المطبات الجوية كانت تخدش صفو وداعتها نادراً ، حينما كانت الطائرة تهبط للأسفل ، و تعلو فجأةً ، أو تميل يمنةً و يسرةً ، بما تعكر مزاج المعدة و إرباكها ، فتأخذها إلى حالة الاضطراب . بلا اعتذارٍ عن حركاتها الناشذة تلك .
كانت رحلةً عابقةً باللطف و السلاسة ، بلا منغصاتٍ و توترٍ ، أو ابتلاءٍ بثقيل ظلٍ يكدر النفس أو يهز البدن .
إلا أن اقترب ختامها ، و همت الطائرة بالهبوط ، فبدأت قوة الدفع تنخفض بالتدريج ، وهي تنزل متجاهلةً تبخترها من علوها الشاهق ، حتى لامست أرض المطار لتسير بعجلاتها قليلاً ثم توقفت .
طقطات فك الأحزمة كسرت حاجز الصمت بوتيرةٍ واحدةٍ .
نهض المسافرون من مقاعدهم ، و سرت معهم باتجاه الباب بهدوءٍ ، ثم النزول إلى أرض المطار من الدرج .
إجراءاتٌ روتينيةٌ أنهيناها بسرعةٍ خاطفةٍ في الصالة الكبيرة ، لنسف الانتظار الطويل المرهق .
خرجنا من البوابة الأخيرة مع الحقائب إلى حيث القافلة الصغيرة التي كانت تترقب وصولنا بفارغ الصبر .
كان لقاؤنا يقيناً لا حلماً ، حينما لامست أصوات فلذات الأكباد أسماعنا .
احتضانٌ أخمد لهيب الشوق ، و أضاء شموع القلب المطفئة .
و القلب تسارعت نبضاته ،
صبرٌ حقق فوزاً ساحقاً ، بعد أن كاد يوشك على النفاذ في اختباره المديد المضني .
زوبعة الحنين هدأت ،
الدموع الساخنة عجزت عن فك عقدة اللسان إلا النطق بكلمتين اثنتين لا ثالث لهما : ( أبي – أمي )
الحماس ألجم اللسان عجزاً لقياس حجم الاشتياق .
كل شيءٍ بدا خارج الزمان و المكان سوى لملمة الشتات .
و الماضي تلاشى في بوتقة الحاضر .
أبواب الذاكرة أُقفلت ،
و من وميض العيون حكايات الغد أفلت في أتون الحاضر .
و الروح بلغة الصمت المعبرة كانت تصرخ : لقد كملت الفرحة حتى الشبع ،
و ولادة حياةٍ جديدةٍ بدأت ، لتنطلق بوتيرةٍ خاليةٍ من التعثرات ، بعيدةً عن متاعب الشرق و كوابيسه المرعبة .
حياةٌ حبلى بالأماني و البسمة ، مليئةٌ بالأمل و الطمأنينة و الإبداع .
(المقالة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع)
التعليقات مغلقة.