المجلس الوطني الكوردي في سوريا

الكوردي بين التدخل والجهالة “الجزء الثالث”

169

لمعرفة العدو من كل أوجهه، والمعرفة هذه علامة فارقة في تاريخنا، لابد من الخروج من الدائرة المغلقة التي حددتها لنا الدراسات الكلاسيكية، وتجاوز المرئي إلى الأخطر المختفي وراء النفاق والأقنعة الوطنية، والتي حرفت وعلى مدى عقود تاريخنا، وقزمت سياستنا خارجيا وداخليا، وشوهت معظم دراساتنا الأدبية والاجتماعية والتاريخية، وجعلت من شخصيات انتهازية أبطال وطنيين وقزمت بهم صراع أمتنا ومسيرة مجتمع كوردستاني.

 

الجهالة من أخطر الأعداء، سلاح ذاتي القتل، يستخدمه المتربصون بنا بكل خباثة، ولقد أصبح هذا العدو معروف في الأونة الأخيرة لشريحة من الحراك الكوردي كسبب رئيس لمعظم مآسينا، مع ذلك لا زلنا نتخبط في طرق التعامل معه، ونعجز في تحديده، وهو الذي يفتح الدروب لنستخدم أحط المصطلحات ببعضنا، ونقدم جل الخدمات لأعدائنا المباشرين، الجهالة هي التي تحرفنا عن كتابة تاريخنا بنزاهة، وتدفع بنا لنسخر العلم والفكر في ترسيخ الخطأ وتقديم الانتهازية على الوطنية، وتغيير الموازين بينهما بحنكة الكتابة.

 

الجهالة تجعل من القلم مسموما، كعدو أخطر من الواضح المقتسم والمستأصل لكوردستان، ولا ينتبه معظمنا إلى هذا الوباء، والتي تسهل عمل الثاني، وتمهد له السبل للتحكم فينا واستخدامنا كأدوات. فالعدو الأشرس هو الذي في داخلنا، والذي يحركنا بعشوائية وحسب أهواءنا بعيدا عن الحكمة، وهو الذي يقتل فينا القوة، ويجعلنا نعيش العبودية أمام غرائز بساطة أفكارنا، ويبني فينا أحاسيس المعرفة الكاملة، وعدم فهم الأخر ومن ثم تصغيره، وهو الذي يدفعنا لنكون مطلقين في أحكامنا، ونكره النقد بكل أبعاده، ونشوه تاريخ أمتنا لمصلحة ذاتية. فخطر هذا العدو مرعب، وهو يسبق العدو المعروف في تكرار كوارثنا، وتقديم رغباتنا الشخصية أو الحزبية على الوطنية أو القومية، وهو يعمي البصيرة ويمنعنا من الارتقاء بفكرنا، ويجعلنا سعداء فيما نحن فيه.

 

العدو المرعب الواجب التحرر منه، ومن إملاءاته، قبل مواجهة العدو الواضح أمامنا، الثاني يفرض الأول ويحافظ عليه بكل السبل، والأول يرجح حب الذات على الوطن، ويدفعنا للتعامل مع الكوردي لمصلحة ذاتية، والثاني يدفع بنا أن نخون الكوردي المتعامل معه دون دراسة الظروف والأسباب وإدراك دوافعه.

 

لا شك، القضاء على الثاني، المقتسم لكردستان، أو على الأقل التحرر منه، قد يكون سهلا، فلربما تساهم فيه الظروف والشروط الدولية ومصالحهم، ولكن لن يكون من السهل مواجهة الأول، الجهالة، والانتصار عليها أو لنقل التحرر منها، أنها علاقة جدلية مرعبة بيننا وبين مواجهة الواقع، والاقتناع بالحقيقة، وكيفية التخلص من النقص الداخلي وضعف الثقة بالذات والانتهازية المغروزة فينا. والغريب أن للجهالة دور في تضخيم الرهبة، ومواجهة العدو المكشوف، وتخلق للمواقف المترددة أسبابا وتحيطها بهالات من المعرفة والتحاليل والتبريرات.

 

فالمجتمع العالم والمتعلم لا يتولى أموره جاهل من طرازنا بسهولة، ولأسباب خاصة. لدى حدوث مثل حالتنا يدرس ذلك المجتمع ملابسات توليه، ويخرج بنتيجة تسد تلك الثغرة التي أتاحت له ذلك. بينما نحن نلقي كل اللوم على استبداد الآمر وقمعه لنا، وهذا لا ينكره أحد منا، غير أن حينها يتحتم علينا تسليح أنفسنا بالعلم والمعرفة للتغلب عليه. وإذا أردنا العدل في أنفسنا لوجدنا أننا نزيد من النقد للجاري دون إبداء فعل حيال إزاحته، ويتمخض عن هذا التجاؤنا إلى تلك المصطلحات، بل اختراع مصطلحات جديدة نزيد من الغبار والغشاوة على بصيرة المجتمع، فيرتاح الجاهل حاكما آمرا علينا، ونحن نكيل التهم ونتذرع بأسباب وحجج لا انطلاقا من الوطنية علميا، بالرغم من إحساسنا بأدائنا واجبنا الوطني، ولكن من منطلق ارتياح الضمير، الذي قوقعه، بطبقات ثخينة جدا، الجهل الجاثم على صدورنا والمهمين على عقولنا.

 

هذا النقص الذاتي يدفع بنا أن نستخدم الكثير من المصطلحات وأحيانا نخلقها، كالتي نشاهدها في بعض الدراسات التاريخية الصادرة حديثا عن الكورد وبأقلام كوردية، والتي تخلق هالة من الدهشة عند القارئ، ومنها ما نلاحظه ما بين العناوين والمتن، والمتن والحقيقة، ما بين المصادر وما وراءها ومنابعها. وهنا سنترك ما تم في هذا البعد والتي تحتاج إلى دراسات مطولة وسنأتي إلى مصطلح التدخل في الشؤون الغير.

 

هذا المصطلح الذي كثر ترداده في الآونة الأخيرة بين فئة واسعة من حراكنا الكوردي، وفي واقع الحال، هو صحيح، ولكن بغير التفسير المتربع في أذهاننا. فتدخل جزء في شؤون الجزء الآخر أمر يجب النظر فيه بعلمية، وليس بمعناه العام، أي علينا أولا أن نسأل أنفسنا هل نحن مؤهلون معرفيا بإلقاء هذه التهمة على الجهة المُتَدَخِلَة أم أننا لسنا كذلك؟ إذا راجعنا بداياتنا لوجدنا أن أوائلنا جاهدوا وبكل عزيمة من أجل تحرير جزء ليكون عونا للآخرين، والأمثلة عديدة في مسيرة تاريخ أمتنا، وبها غرس أجدادنا هذا التفكير فينا، وجعلونا نقرأ كوردستانيتنا على أسسها، وانتماءنا إلى أرض متكاملة، وانتقلوا إلى بارئهم، بقيت تلك الفكرة حية من بعدهم، وتداولناها نحن من بعدهم، ثم تبين لبعضنا، وعلى خلفية علاقات سياسية وأجندات خارجية، أن ذلك لا يتطابق مع واقعنا، فصرنا نعاديها، ونعتبرها خيانة.

 

ليس أمر تدخل هذا الجزء في شؤون الجزء الآخر سيهيئ التحرير للمعاني، بل نلقي بهذه الحجة من دون أن نعاين منشأها ومآلها. لم يكن أسلافنا متسلحين بالعلم والمعرفة المطلوبة؛ فكانوا معتمدين في الكثير على الفطرة والموروث القديم، وكان من الطبيعي أن يروا أن تحرير جزء هو مفتاح الأجزاء الأخرى للانعتاق من الاحتلال. كما لم يكن بوسعهم تكهن المستقبل بواقعه، فالزمن اجتماعيا ودوليا كان لديهم ثابتا لا يتغير؛ لذا كانت رؤيتهم صائبة من هذه الزاوية. فالتغيير يشمل الجميع، المجتمع والظروف الدولية وطريقة النضال وغيرها. لذا يتضح الآن أن ما يقوم به الجزء المتحرر يكون تدخلا في شؤون الآخر. إلا أنه علميا غير سليم في الأساس؛ طالما لم يؤخذ عامل التغير بعين الاعتبار، هذا من جانب، ومن جانب آخر، كوننا متخلفين فإن الجزء المتحرر لن يكون على تلك الدرجة علميا ومعرفيا ليعيننا على التحرر؛ بل قد تجلب مساعدته أشد الضرر على الآخر، في هذه الحالة وصمه بالخيانة ليس دقيقا. فهو جاهل ويتصرف بجهالة مقتنعا أنه يسير في طريق الصح، إلا أن الواقع يكشف خطأه، فيبحث هو عن العلل والمبررات، ونحن من جانبنا نوصمه بالعمالة والخيانة، فلا هو على صواب ولا نحن، كلانا على خطأ، والمفروض علينا علميا أن نبحث في ذاتنا، ونقر أننا لسنا مهيئين ذاتيا، أي أننا بحاجة إلى فترة من الزمن نهيئ فيها أنفسنا لنكون على مستوى المسؤولية لمساعدة الجزء الآخر، غير أن الجهل المخيم علينا يحول دون ذلك، ولن يكون بمقدورنا مساعدة بعضنا البعض والشرط الذاتي غائب عنا…

 

يتبع…

 

 

التعليقات مغلقة.