المجلس الوطني الكوردي في سوريا

الخلاف الكوردي المسيحي “الجزء الثالث”.

151

ولنسأل هنا أين هي اللغة الآرامية وأين هو الشعب الأرامي؟ أليست جريمة بحق التاريخ والحضارة ما تم من التدمير والضياع بهذا الإرث الثمين شعبا وأدبا؟ لا خلاف أن من يتحمل تبعاتها هي الحكومات التي أرادت إذابتهم في بوتقتها، ولكن أين التاريخ الذي ينبئ عن المقاومة الحقة في مواجهة الإذابة، وما يتبين لنا الآن أن المقاومة تختزل، حاليا، في إثارة الكراهية للحلقة الضعيفة، في الوقت الذي يتطلب الأمر خلق تلاحم مع الضعيف (الكورد) لينجو الاثنان من الصهر والإذابة.

بتقلص الآرامية، وعدم توفرها على مقومات الدولة لتكوين ذاتها وتطوير ما يدعو إلى تثبيت وجودها كشعب له دولته وسيادته أضافت خسارة إلى الإنسانية لا تعوض كشعب ولغة أكبر ديانة عالمية، ومن المحزن والمؤسف معا أن تكون اليونانية والعبرية في المرتبة الأولى مرجعا للأناجيل، وليس الإنجيل باللغة التي تكلم بها المسيح نفسه.

لتفادي تكرار ما حلّ بكلينا فيما مضى من المصائب للقادم من الزمن، يرشدنا إلى البحث عن أفاق تدفعنا إلى مراجعة ذاتنا والتساؤل عن صواب ما نحن مثابرين عليه حاليا. فالراهن لا يبدي أن يأتي المستقبل بأفضل مما مضى. في كل يوم تزداد العداوة بيننا مرفقة بحوادث تجري على أرض الواقع، رغم خلو ذمة كلينا منها، ولكنها تحدث أو تفسر أن ما جرى ويجري هو بمشيئتنا، فيندفع السطحي منا باليقين المطلق أن ما حصل أو يحصل هو منا، ولا يؤديه محنك خبير، وينسجه بدقة وإحكام يقطع كل شك أو ريبة أنها من تدخل خارجي محض؛ إنما دفعْنا إليها من دون أن نعلم. للتغلب على هذا منوط بالواعين والمثقفين والقيّمين من كلينا. إن تغاضينا هذه المرة عما يحيك ضدنا، ونحن منغمسين في لج تبادل الاتهامات أو الشك في الالتقاء وإصلاح ذات البين، سيكون القطار قد فات، ولم يعد ينفع إن تقاربنا أو ابتعدنا؛ حيث لن يكون وجود مؤثر لنا. ستكون الحيرة والحسرة والندم والتأسف هم ندماؤنا إلى أن نلفظ أنفاسنا الأخيرة.

علم الغازي أن القضاء على شعب المسيح لغة في مهده هو الضمان الحقيقي لبقائه الأبدي في مهد المسيحية، فعمد إلى تقليص لغته؛ وذلك بإثارة الكراهية بين كل من ترك المسيحية ومن بقي محافظا عليها، فتخلى التارك لها عن لغته، ومع مرور الزمن اضطر المحافظ عليها أن يتبع التارك في التخلي هو الآخر عن لغة الإنجيل فكانت التلاشي الفعلي لشعب حكم أراض شاسعة في شرق أوسطنا، فتحول أرامي إلى عربي لغة وقومية ومسيحي ديانة، غير مبال بهذا أنه استسلم لقومية القرآن وإن كان مسيحيا بالديانة.

لو أن هذا التحول أدى إلى مساواته بالمسلم العربي لما كان ضيرا، ولكن التاريخ يكشف عكس ذلك، فظل مواطنا يدفع الجزية وهو صاغر: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} التّوبة (29:9). فأول علماء المسلمين هذه الآية بتأويلات حسنة وحاولوا تلطيفها كأي محتل على أنها تحافظ لمن تخص به هذه الآية كرامته وحريته، إلا أن المسلمين في بلاد الشام ومصر لم يحافظوا على تأويلاتها بشكلها الصحيح، فأذاقوا من استعربوا لغة وحافظوا على ديانتهم القديمة أصنافا من الإهانات والانتقاصات ناهيكم عن الإبادة والسلب والنهب والإباحة وحرق وهدم دور عبادتهم، فعهد عمر بن الخطاب ببنوده الاثني عشر على أهل القدس ومعاملة المسلمين لمصر القبطية كافية، خير مثال على ذلك.

إذا عدنا إلى الماضي بعدة قرون لنجد أنه ليس للكرد أي دخل في تقلص نسبة إخواننا شعبا ودينا في تلك البلاد، بل كل ما جرى بحقهم كان من قوم شعب لغة القرآن ولصالح ملة القرآن ولغة القرآن وقومية القرآن، إن كان ذلك بيد قومية القرآن نفسها أو بيد معتنقي عقيدة القرآن؛ وأي كان ذلك، فكان لصالح قومية القرآن.

مهما ادعى إخواننا المسيحيون بقدم عروبتهم، يذكر التاريخ أنهم، أي المسيحيون العرب كانوا قلة قليلة وقتذاك، ولم يتساووا مكانة كمواطنين مع العرب المسلمين إلا أفرادا، حيث رجح الآراميون المستعربون، بسبب التحول إلى الإسلام وهجرهم للغتهم، الغلبة السكانية لصالح العرب. وجميعنا يعلم أن العرب كان سوادهم الأعظم وثنيون، وبشهادتهم هم، وكذلك بشهادة القرآن الذي يخوض معهم صراعات وجدالات شتى.

والسؤال هنا لماذا تكاثرت تلك القلة من العرب ليصبحوا الأكثرية؟ وفي وقت قصير؟ وكيف اندثرت الأكثرية الآرامية بهذه السرعة، ولم تخلف من النسل إلا النذر اليسير؟ إن هذا لمدعاة إلى دراسة معمقة، على أن تأخذ النزاهة العلمية دورها فيها. ليس سحق الضعيف المماثل لهم في المعاناة من هؤلاء الغازين كمتنفس لما حل بهم نتيجة تراكم المعاناة التي أحلها بهم غزاة الصحراء، وليس من المفيد إلقاء كل ثقل المعاناة على الضعيف، المُغرّر به، وما كان يوما من الأيام حلا، ولم يزل كذلك، بل الواقع العملي يستوجب التلاحم والتكاتف والبحث معا عن السبل للصمود في وجههم من الإذابة والاضمحلال.

يحتم الواقع الحالي، وبإلحاح، مراجعة ذلك العهد، حتى ولو كانت متأخرة ودراسته بتمعن، وبعلمية أمينة، لإيجاد المخرج السليم. إذا لم يتدبر كلانا تاريخ ماضينا ذاك بعلمية صحيحة، سنظل متهمين بعضنا بعضا، سنتقاتل فيما بيننا، مع العلم أن كلينا هي الضحية، فالرابح المطلق هي السلطات التي غزتنا من الصحراء، ولا ضمان لنا ألا يعيدوا الفرمانات من جديد إن سنحت لهم الفرصة.

لا نظن أننا نسينا الذين أصدروا فرمانات المجازر ما بين عامي 1909-1925م بحق الأرمن وفيما بعد بحق الكرد، واليوم أحفادهم يسيرون في الركب ذاته، داعش وأخواتها خير مثال، ونحن الاثنين نتحارب ونكيل التهم لبعضنا، لصالح مَنْ؟ لصالح أحفاد جزارينا لنتلقى لاحقا الفرمانات نفسها ومشروعة، أو يفني كل واحد منا الآخر. بل من المعيب أن يعتبر قسم منا أنفسهم من قومية غزاة الصحراء، مع أن الواقع الراهن يثبت عدم جدواه، فبالرغم من ذلك لم ننج من مجازرهم، وما قتل المسيحيين واليزيدين، وسبي نسائنا وبناتنا سوى دليل صارخ أن من استعرب لم يشفع له استعرابه.

والحالة هذه لن يكون هناك خيار آخر أمامنا: إما الإذابة في لغتهم وتحول من لم يتحول إلى دينهم أو الهجرة من الوطن والتلاشي في الخارج، وبالتالي إضاعة المسيحية شعب المسيح ولغة المسيح بكل أبعاده مع إضافة الكردي إلى العروبية لينسى هو الآخر أمجاد سومر وميديا وساسان، فيكون الرابحون هم ذاتهم قادة الغزوات والمجازر، ولا شيء ستعيد هذه الحقيقة المؤلمة (حقيقة التلاشي) إلى نصابها سوى اليقظة وترك الضغائن التي سببها الغزاة وصادرو فرمانات المجازر. فمراجعة الماضي، وقراءة التاريخ لاستكشاف مكائدهم ودسائسهم التي يحيكونها لتأجيج نار الإيقاع بيننا، فهي وحدها جديرة بإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاضمحلال.

ربما يبدو أن تناسي ما حصل بيننا في الماضي القريب صعب أو يكاد يكون صعبا؛ حيث تعدد الأقطاب في الوقت الراهن وتشابك المصالح الدولية، مع تزايد التدخل الخارجي، وتواجد الموالي منا، إضافة إلى الترغيب والترهيب وما على شاكلة هذه الموجودات، كلها عوامل مثبطة وحواجز منيعة لإتاحة المجال لكيلينا في التعاون معا لدرء الجاري بحقنا الوصول إلى حلول تمكننا من تخطي المحدق بنا.

مع تلك الصعوبات وأزيد منها لا تشرّع لنا القطيعة أو نبذ محاولة الالتقاء وتباحث الوضع، أو الحوار حول ما يمكن أن يجمعنا على إشكالية فرقتنا وتنافرنا من بعضنا البعض. يشهد التاريخ وبأمثلة دامغة عن التقاء الأعداء والخصوم على التحاور كان عاملا فعالا في تقريب وجهات نظرهم ومن ثم تصالحهم، أما القطيعة في هذا الأمر لن يجلب سوى الخسارة للطرفين…

المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع 

التعليقات مغلقة.