من الصعب كشف الأسباب العميقة وراء قرار الرئيس الأمريكي، سحب القوة الأميركية من سوريا، لكن معطيات سابقة وحالية تمهد لنا الى حد ما فهم الدوافع .
سوريا ما كانت ولن تكون في أي يوم جزءًا من الفضاء الأميركي المصالحي، أي جزءًا من المصالح الأمريكية العليا مع التركيز على كلمة “العليا”، ومايثبت ذلك هو سياسة أميركا خلال عمر الثورة السورية، حيث لم تكن يوماً جادة في القضاء على النظام أو تغييره، ولم نلاحظ ميلها الجدي لايجاد حلول خلاقة وعملية للأزمة السورية، فقط اقتصر الدور الأميركي على التعطيل والمطمطة أكثر منه على الفعل والتنفيذ، كلنا يذكر كيف عطلت بل مانعت أميركا حصول فصائل المعارضة على السلاح الثقيل، وعطلت بعض الدول العربية عن القيام بدورها في الملف السوري، وكبحت اندفاعة الدول الداعمة سياسياً للمعارضة السورية، وفي المقابل، هي بذاتها التي عرقلت التحرك الإيراني في شرق سورية، وهي التي قامت بفرملة كل مشاريع الحل الروسية التي كانت تصب في مصلحة النظام السوري، وأكثر من مرة قامت أميركا برفع البطاقة الحمراء في وجه تركيا بصدد شرق الفرات.
ان سحب أميركا 2000 جندي في المفهوم العسكري يُعتبر قليل الأهمية، فالتواجد العسكري الأميركي لايُقاس بعدد جنودها في سورية، وإنما بالقوة العسكرية الأمريكية المطلقة والضاربة القادرة على التحرّك من أي مكان الى سورية.
الغير الواضح بعد ما إذا كان سحب القوات الأمريكية من سوريا يعني انسحابًا استراتيجياً من الساحة السورية بما فيها السياسية، لكن أغلب الظن أن الولايات المتحدة ليست بصدد الانسحاب الإستراتيجي من سوريا، بقدر ما هي عملية إعادة تموضع وتخندق سياسي، واعتماد أساليب جديدة تفرضها المرحلة المقبلة. لقد تأزمت الأمور في سوريا إلى مرحلة حدوث تماس بين المحور الروسي والولايات المتحدة، فمن جهة بوادر عزم دمشق وموسكو، العام الجاري، على إرباك الوضع في الشرق والشمال الشرقي من سوريا، في وقتٍ لا يبدو أن الأتراك على استعدادٍ للتخلي عن مهاجمة شرق الفرات.
هذا الانسحاب لا يعني حرفياً هروبًا أميركيًّا، وإنما على الأغلب يعني عدم الانخراط في التفاصيل العسكرية الجزئية المباشرة. والتموضع الأميركي الجديد يمكن أن يكون : تقليص الانخراط والتورط الأميركي المباشر في الصراعات الإقليمية، من خلال البحث عن شركاء محليين وإقليميين ودوليين، يعوضون عن الحضور الأميركي، بشرط الحفاظ على المصالح العليا للولايات المتحدة وهنا نشدد ثانية على كلمة “العليا”. وربما يكون التموضع الجديد محاولة للفصل بين الأهداف السياسية العامة عن الأهداف العسكرية المباشرة والسريعة، على سبيل المثال ان عملية محاربة (داعش) هي الوحيدة التي تجمع بين الأهداف السياسية والعسكرية للولايات المتحدة. وفيما يتعلق بإيران، والتسوية السياسية، فهي أهداف عامة لواشنطن طويلة الأمد وغير مرتبطة بالأهداف العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، لن يرجع الوضع في سوريا إلى الوراء، بسبب الوجود العسكري الروسي، وهذا هو السبب في اختلاف الواقع السوري عن الواقع العراقي، فالولايات المتحدة لا تستطيع سحب قواتها كاملة من العراق، حيث لا بديل عنها.
بعبارة أخرى، ستكون روسيا الضامن الوحيد للحفاظ على الوضع الراهن في سوريا، وهي التي ربما (وهذه إحدى مفارقات السياسة العجيبة) ستعيد ترتيب المشهد بما لا يضر بالمصالح الأميركية. ولا يُستبعد أن تكون روسيا ضامنًا للمصالح الأمريكية المتبقية في سوريا، في مقابل ضمان الولايات المتحدة المصالح الروسية في العراق، انها السياسة التي نحن الكورد أحوج ما نكون اليها. وربما من المهم الإشارة هنا إلى أن القوات الأميركية المنسحبة من سوريا ستنتشر في العراق وفي مناطق قريبة من الممر الحيوي الذي تنوي ايران استخدامه للمرور الى سورية ولبنان وهذا يجعل من السعادة الايرانية بالانسحاب الاميركي مؤقتة وقصيرة، في وقت تعيد واشنطن تموضع قواتها على الحدود العراقية السورية وانشاء غرفة عمليات مشتركة مع البشمركة للقيام بعمليات عسكرية داخل سورية عند الضرورة، وهناك نقطة أخرى وهامة للغاية ويجب أن لاننساها، صحيح أن أميركا انسحبت عسكرياً من سوريا لكنها لم تنسحب من التحالف الدولي.
وحسب قرائتنا المتواضعة، أن الولايات المتحدة ليست بصدد الانسحاب الكلي من المشهد السوري، بقدر ما هي محاولة لموضعة أهدافها المتغيرة. وهذا ما أدى الى عدم قدرة أطراف الصراع على فهم ماهية المصالح الأميركية في سورية، وربما هذا كان السبب في تريث القوى المحلية والإقليمية والدولية في اتخاذ قراراتٍ سريعة كي لا يسقطوا في شباك ردود الفعل. فالرئيس التركي أرجأ العملية العسكرية إلى حين، والنظام بدأ خطوات خجولةً بتعزيز قواته في البوكمال، وإرسال قوات قليلة ومتواضعة إلى ريف حلب الشمالي حيث هناك “قسد” والوقوف على مشارف منبج وفي الايام الاخيرة تراجعت قوات المعارضة الموالية لتركيا الى حدود لواء اسكندرون، من دون وجود معطياتٍ بشن عمليات عسكرية حاليًّا، فيما تنتظر روسيا انجلاء الصورة بالكامل، أما “قسد” فتتخبط نتيجة صدمة المفاجأة، وغير قادرة على لملمة شتات أفكارها.
ان الانسحاب الأميركي سيؤدي بدون شك إلى تغيير في خريطة المصالح داخل سورية، لأن الأمر هنا لا يتعلق بنوعية الانسحاب، بل بمبدأ الانسحاب الذي سيدفع مختلف القوى إلى إعادة ترتيب مصالحها واصطفافاتها.
السابق بوست
التعليقات مغلقة.