الكاتب .. فرمان بونجق
بياندور الحادثة، بياندور الموقعة، بياندور المجزرة، بياندور الانتفاضة، هكذا تم نعتها، لماذا إذاً هذه البياندور عالقة في التاريخ بهذه الطريقة حتى هذه اللحظة؟. لماذا لم ينصفها التاريخ عبر إطلاق سراحها إلى فناء الحقيقة؟. من الذي أرّخَ لبياندور؟. وأماط اللثام عن وجهها التاريخي؟. ومَن الذي طعن بمصداقية حدثها؟. ومَن الذي حاول أن يعيد لها ألقها ولو بالحدّ الأدنى من الوفاء لدمائها؟. أسئلة جمّة لا تزال عالقة، ولم تتم الإجابة عنها. بتقديري، (بياندور هي تلك الروح العالقة في البرزخ العظيم، فلا هي من أهل الجنّة، ولا هي من أهل النار)، هذا إذا أسعفني التعبير!.
الباحث إبراهيم محمود ومن خلال كتابه “دولة حاجو آغا الكردية” بذل جهداً لإضاءة جوانب عديدة من تاريخ بياندور، مستأنساً بالعديد من المراجع الموّثقة، بدءاً من دراسات تاريخية لمستشرقين من ذوي الصولة والجولة في هذا المضمار، وقد أتيت على ذكرهم فيما سبق، ولم يتجنب على الإطلاق كتابيّ سلاطين هفيركان ومذكرات جميل حاجو وهو نجل حاجو آغا، ناهيك عن كتاب جكرخوين سيرة حياتي، وكتاب الباحث محمد جمال باروت، التكون التاريخي الحديث للجزيرة السورية، كذلك اتكأ أيضاً على مجموعة من وثائق وزارة الدفاع الفرنسية المترجمة، وأيضاً وكما لاحظت فقد استجلب العديد من المقالات المنشورة هنا وهناك، وباللغتين الكوردية والعربية، وعلى سبيل المثال مقالة شاهوز حاجو، ومقالات د. بنكي حاجو، وبعض مقالات الباحث د. محمود عباس، وغيرها وغيرها. أمّا فيما يخص كتاب “التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية” للباحث العربي محمد جمال باروت، فتلك قصة أخرى، لا ينبغي تجاوزها في حال من الأحوال.
وارتكازاً على المقولة التحريضية للباحث إبراهيم محمود، والتي أوردها في الصفحة 415 من كتابه المذكور” وأن من المتوقع أن يظهر من سيتناول المسطور هنا بالنقد، وهذا ما أنشده في النقد، أي تتبع المرجع الفعلي لكل وثيقة”. حاولت جاهداً قراءة المزيد من المراجع والوثائق المتعلقة بفحوى كتاب دولة حاجو آغا، ومؤخراً كان لابد لي من قراءة كتاب محمد جمال باروت، مع الإشارة إلى أنني قرأت معظم مقالات د. محمود عباس، والتي ناقش من خلالها ما وثقه باروت، ولعلّ من المفيد القول وكبداية، بأن كل ماورد في كتاب باروت حول معركة بياندور، إمّا كان انتقائياً، وإما كان موظفاً توظيفاً مثالياً لجهة استراتيجية ممنهجة، أُريد لهذا التوظيف تسفيه ما يُراد له أن يُسفّه، وتعظيم ما أُريد له أن يُعظّم، وهذا يشكل جوهر التنافي مع روح البحث التاريخي، بل ينسفه نسفا مطلقاً. إذْ نقرأ بما لا يدع مجالاً للظن من أنّ موقعة بياندور والتي يستعير تسميتها من وثيقة فرنسية، وهي الدولة الاستعمارية بطبيعة الحال، “بمذبحة بياندور”، بأنها وقعت على خلفية مقتل لطفي بك قائمقام الجزيرة في بياندور.
بدايةً.. أرى بأنه لا مناص من العودة إلى المفردات التي استخدمها باروت في صياغة الحدث التاريخي المتعلق بسيرة حياة حاجو آغا، والتي يحاول بوساطتها النيل من مكانة حاجو آغا كزعيم كوردي، وذلك تمهيداً لما يريد قوله لاحقاً عن بياندور وانتفاضتها، أو ليبرر ما قد اتفق الفرنسيون على تسميتها بـ “مذبحة بياندور”. وأيضا يلمس القارئ في بداية كتابه، بوادر سوء النيّة من حيث عودته للكتب التاريخية الصفراء، ليستشهد بها في تدوين ما يريد تدوينه، ككتاب المسعودي وغيره من أولئك الذين “دشروا” في تيهٍ تاريخي، كأن يكون أصل الكورد وانتمائهم لقبائل عربية بعينها، أو أنهم أي الكورد كانوا حصيلة زواج الإنس والجن!.
ويأتي تحت عنوان فرعي ما يلي: ( خامساً: مذبحة بياندور: سطوع نجم حاجو آغا وبسط آغاتيّته 1 ـ حاجو آغا من السجن إلى الآغاتيّة إلى “مذبحة بياندور”: حلقات الصعود ) تحت هذا العنوان حرفيّاً يكتب: “كان حاجو آغا(1880 ـ 1940) ينتمي إلى سلالة زعماء الهويركية الذين لقوا جميعاً حتفهم إما في المعارك أو في الثأر. وأعدم العثمانيون والده حاجو آغا في عام 1885 بسبب أعمال الشقاوة التي كان يقوم بها في المنطقة الممتدة من طور عابدين إلى ماردين. وطوال الحرب العالمية الأولى تخوّف الأتراك من شغبه فرموه في السجن ثلاث سنوات. وحين خرج منه كانت السيطرة الآغاتيّة لعائلة أبناء عثمان آغا، قد آلت إلى عمّه الشقيق علي بطّه. وفتح موت علي بطّه في أوائل عهد الاستقلال التركي في عام 1923 الباب أمام حاجو آغا بدعم بالعمل لحساب الكماليين بعمليّة بياندور في تموز /يوليو 1923 التي ستكرّس الحوليات الفرنسية اسمها تحت عنوان “مذبحة بياندور”.
وبقراءةٍ أوليّةٍ لمدونته التاريخية، نشتَمُّ منها رائحة المضمر، ومع أن المعلومات التاريخية التي أوردها الرجل خاطئة لدرجة البؤس التاريخي، إلاّ أنه لا يليق به أن ينعت كفاح اتحاد هفيركان بقيادة آل أوصمان بأعمال الشقاوة، ونظراً لطبيعة التحالف بين هذه العائلة وأمراء إمارة بوتان البدرخانيين، في حروبهم للدولة العثمانية، بهدف إنشاء كيان سياسي كوردي مستقل، فإن هذا يحشر الباحث في الزاوية القاتلة، فالشقاوة مفردةٌ لا ينبغي توظيفها في هذا السياق بالمطلق، ومصدرها في العربية شقاء، وفعلها شقى ـ يشقى، إلاّ أنه ربما استعارها من الوثائق العثمانية والتي كانت الدولة آنذاك تطلقها على المنخرطين في الثورات المسلحة ضد الدولة. إن بلاد هفيركان لا تمتد من طور عابدين وإلى ماردين، وإنما كامل طور عابدين وماردين أيضاً هي ديار هفيركان، وهذه الديار هي فقط الجزء الذي يقع شمال الخط الحديدي، الذي أُعتبر آنذاك الحدود السياسية بين سوريا وتركيا، وأما فيما يخص ديار الهفيركانيين جنوب الخط، فكانت تمتد إلى جبل سنجار(شنكال)، والذي لاتزال قبائل هفيركان تستوطنه حتى هذه اللحظة. والباحث نفسه سيأتي على ذكر إحدى أهم القبائل الهفيركية العريقة، قبيلة دوركان، وسيتحدث عنها بأنها إحدى القبائل القوية والغنية وتمتلك الكثير من القرى، ويحدد بعضاً من مواقع قراهم والتي تقع جنوب الخط. أما فيما يخصّ مفردة رموه في السجن، فإنني أعتقد بأنه ليس مثل حاجو آغا من يُرمى في السجن، وكان على باروت أن يدقق في اختيار مفرداته بعناية ليرفع من قيمة نصّه التاريخي، لا أن يستعير مفردات تتسم بالغباء اللغوي، وكان الأجدى به أن يستخدم بعض المفردات التي لا تفضح نواياه أيّا كان مسوِّغها، كما أن يلجأ إلى استراتيجية الإصرار في الإساءة إلى حاجو آغا مرةً أخرى، وهي لاحقة للأولى ومرتبطة معها زمكانياً كما يُقال، فيشير إلى خروج حاجو آغا من السجن بعبارة: وعندما خرج منه!. ولم يستطع إخبارنا كيف خرج؟. ومع من خرج؟. ولماذا خرج؟. وفي مواقع أخرى لم يكن الباحث أكثر إنصافاً، بل كان أقل إنصافاً في سرد وقائع تاريخية وبالاستعانة بوثائق يعتبرها تاريخية، ولكنها وفيما يبدو هي ليست كذلك، وإنما هي بعض المدونات التاريخية المشكوك فيها بقوة.
كل هذه الخلط التاريخي، يدفع الباحث إبراهيم محمود إلى الاستعانة بعنوان فرعي، يجده إحدى الضرورات في عملية إمكانية تصويب كتابة التاريخ، ويسميها بـ “غربلة التاريخ”. وأنا شخصيّاً من أنصار هذا الرأي، لأن الغربلة بكل بساطة ستفرز الغث من السمين، بمعنى أن الظروف والعوامل التي ساهمت في تدوين التاريخ متفاوتة، وهي بالتالي تنتج تدويناً تاريخياً هزيلاً غير ذي مصداقية، إلى جانب أن هناك الكثير من التعارض بين وثيقة وأخرى، مما يزيد التعميق في الجانب الخلافي لحقيقة التاريخ نفسه.
من هنا كانت قضية تدوين الحقيقة في معركة بياندور، وشقيقتها معركة ديارى توبي، القريبة من تربه سبيى، أمر لابد من حدوثه آجلاً أم عاجلاً، وقد أتيحت لي الفرصة من الاقتراب المنطقي والمعقول، من حقيقة ذلك الحدث التاريخي الذي صنعه حاجو آغا هفيركي وأبناء قبيلة هفيركان، حيث تم كبح غطرسة الفرنسيين على تلك الأرض الكوردية، وليس هذا وحسب، وإنما تم تحجيم بعض السكان المحليين المتعاونين مع السلطات الفرنسية نفسها. ومنهم وفي مقدمتهم قائمقام الجزيرة لطفي بك، والذي تمت تصفيته بعد معركة بياندور وليس قبلها كما يزعم محمد جمال باروت، بأن “مذبحة” بياندور جاءت إثر مقتل قائمقام الجزيرة ذاك.
التعليقات مغلقة.