هل كان للكورد أدباء وفلاسفة قبل الإسلام
الجزء التاسع عشر
من أسباب فقدان آثارهم
ويذكر (المسعودي 896م-957م) في كتابه (التنبيه والإشراف) الصفحة 92 ” رأيت بمدينة اصطخر في سنة 303هـ عند بعض أهل البيوتات المشرفة كتابا عظيما يشتمل على علوم كثيرة من علومهم، … لم أجدها في شيء من كتب الساسانيين كخداي نامه، وآيين نامه، وكهناماه وغيرها” وإعادة أحياء الماضي بالصورة التي كانت عليها، أو على الأقل ما يمكن أحيائه دون تشويه، والذي لربما لا يزال بعضه موجودا في مكان ما، كما ويذكر في الصفحة (117) من الكتاب ذاته، عندما يتحدث عن فترة ظهور (ماني) وكان في عهد قيصر بيزنطة قلوذيوس فيقول ” وقد ذكر ماني في كثير من كتبه المرقيونية والديصانة وأفرد للمرقيونية بابا في كتابه المترجم بالكنز وللديصانية بابا في كتابه سفر الأسفار وغير ذلك من كتبه” إشادة المسعودي هذه بكتب ماني خير إثبات على أن المؤلفات الساسانية وذخيرتها الثقافية الناجية حتى تلك الفترة، كانت لا تزال متداولة بين الشعوب المحتلة، قضيت عليها مع توسع السلطات العربية الإسلامية.
كما وأن الخدمة التي قدمها (برزويه) الطبيب الساساني، وتحديداً في فترة حكم كسرى الأول، بترجمته لكتاب كليلة ودمنة من اللغة السنسكريتية إلى الفهلوية في القرن السادس الميلادي، وبعدها ترجمها ابن المقفع إلى العربية، تعد مأثرة تاريخية -أدبية من عدة نواحي منها:
الأولى، بترجمتها إلى العربية تم الحفاظ على هذا الكتاب القيم من التلف أو الإهمال لأنه أصبح قابلا للقراءة من قبل السلطات العربية الإسلامية.
والثانية، تؤكد أن الآداب الساسانية كانت على درجة عالية من التطور الحضاري، ومنها ترجمة المآثر من لغات الحضارات المجاورة إلى لغتهم.
والثالثة، وهي أن ضياع الأصل الفهلوي وبقاء العربية تثبت درجة الإهمال الذي حل بالثورة الثقافية للحضارة المحتلة من قبل القبائل الجاهلة الغازية، أو التدمير المخطط من قبل السلطات وفقهائها للمآثر الأدبية للحضارة الساسانية، والتي وضعت القرآن بديلا عن كل ما عداه من الكتب، وتقريبا لم يقرأ غيره على مدى قرابة قرنين من الزمن بعد الاجتياح العربي الإسلامي. فنحن نعلم أن النسخة المترجمة والنسخة السنسكريتية الأصلية فُقدتا، وابن المقفع قام بترجمتها إلى اللغة العربية بناءً على النسخة الفهلوية التي كانت في حوزته قبل فقدانها.
فكتاب كليلة ودمنه ومسيرة ترجمتها والحفاظ عليها، خير برهان على وجود العديد من أمثالها وذخيرة أدبية تدين لها الحضارة الساسانية، لا تزال في طي الاختفاء، ومن المستحسن للمختصين في هذا المجال البحث عن المكتبات القديمة، والتنقيب عن الكتب الأثرية في مكاتب إيران والهند واليونان وروما على سبيل المثال، وعلى المنظمات الثقافية المعنية بالأمر توظيف اختصاصيين باللغات القديمة والباحثين في التاريخ، وقد تحدث في هذا المؤرخ آرثر كرينستنسن، أثناء العمل على كتابه (تاريخ إيران في عهد الساسانيين) في الصفحة (31) ” أتسعت معرفتنا باللغات الإيرانية المتوسطة اتساعاً بيناً بالاكتشافات التي تمت في تركستان الصينية …والنصوص التي جمعتها هذه البعثات مأخوذة من الآداب البوذية والمانوية والمسيحية باللغات السنسكريتية…”
وإضافة على حقيقة تشعب الفلسفة والأدب الساساني الكردي، من خلال الكتب والمخطوطات الساسانية، إلى خارج إمبراطوريتهم، نأتي على المعلومات التي قدمها الباحث الفرنسي (فستوجين) قائلا إن بعض المؤلفين يقدرون حجم الأدبيات الزرادشتية في مصر وحدها عام 200 ق. م. بنحو مليوني سطر، وهي المعلومة التي يستند عليها المفكر والباحث العربي (محمد عابد الجابري) في كتابه تكوين العقل العربي، في الصفحة (175) ويستشهد بهما الكاتب الكردي (زاغروس آمدي) في كتابه (تأريض الإسلام) في الصفحة (378) فيقول ” كانوا يجهلون أن ثمة عشرات الألوف من الكتب الزرادشتية كانت منتشرة بين الكرد والفرس وغيرهم من شعوب المشرق والمغرب”.
ومن الأهمية في هذا المجال التنويه إلى سرد الكاتب (زاغروس آمدي) لأسماء البعض من العلماء الكورد في المراحل الأولى من الإسلام ما بين الصفحات (383-386) مع تحليل فكري ورؤية واستنتاجات قيمة تدعم ما نحن بصدده، ومنها اغتراب العديد من المفكرين والفقهاء الكورد عن الإسلام في بداياتها، لكنه لا يحدد لها زمن معين بل يأتي بأمثلة من العصر الحاضر. وما نستنتج منه، أن هذه الكوكبة من الأدباء والفلاسفة والفقهاء من الكورد برزوا في المراحل الأولى من الإسلام بناءً على خلفية حضارية سابقة للإسلام القادم في البداية مع قبائل جاهلة تتعارض مفاهيمها والحضارة، وبالتالي فهؤلاء العلماء الكورد وغيرهم من السريان واليهود والكلدان والفرس، هم ورثة مجتمع ثقافي علمي أدبي عميق الجذور، ومتين البنيان، لم تمت رغم الدمار الهائل الذي خلفه الغزاة، قبائل العربية الجاهلة، وظهورهم المفاجئ تزامنت عندما كانت الحضارة الساسانية تعاني من اضطرابات داخلية دينية وسياسية وخارجية مع الإمبراطورية البيزنطية.
كما وأن ظهور هذه المجموعة من العلماء والأدباء والفلاسفة الكورد، ومن غيرهم من الشعوب التي كانت تتكون منهم مجتمع الحضارة الساسانية، في المراحل التي لم تكن السلطة العربية الإسلامية قد بنت ركيزة ثقافية بعد، فكانت منابع ثقافتهم وذخيرتهم المعرفية تستمد من كتب حضارتهم المدمرة، وبلغتها، والتي لم تكن قد ترجمت بعد أو أن معظم هؤلاء العلماء والأدباء لم يكن قد أتقنوا العربية، والتي لم تكن قد حلت محل اللغات المتطورة والتي كانت المراكز الحضارية تستند عليها في كتاباتها وتعلميها ومراسلاتها وسجلاتها وأرشيفها، بل وحتى في المراحل التي توسعت فيها الترجمة في عهد الخليفة المأمون خاصة، والمتربي على الثقافة الساسانية، كانت اللغة العربية لا تزال غير قادرة على حمل المفاهيم العلمية بقدر ما كانت تحمل المفاهيم الفقهية، والأدبية في مجال الشعر حصرا، وظلت لقرون لغة شعر وعلم كلام.
وروجت بعدها السلطات الإسلامية، العربية أو المستعربة، كل الموبقات عن الحضارة الساسانية وعلماءهم ودياناتهم، وتمت محاربة مخلفاتها بكل الأساليب، تحت منطق الزندقة والمجوسية والكفر، إما للتغطية على همجيتهم في تدمير الحضارة بعلومها، أو لأن العبثية كانت جزء من أساليب السلطة والإهمال، ساعدت على نشر الدعاية الخاطئة عن الشعوب الأخرى المحتلة، وخاصة عن الشعب الكوردي، على أنه لم يكن لهذا الشعب إدارة سياسية أو ممالك حضارية، وتم ذكرهم في الكتب التاريخية الحاضرة كقبائل تابعة لسلطات الشعوب الأخرى كالفارسية وفيما بعد العربية، وأنه لم تكن لهم لغة، أي بما معناه لم يكن يشكلون أمة كالأمم المحاطة بهم الأن، وظلت هذه الموجات العنصرية سائدة لقرون طويلة، ولم يطرح احد على ذاته السؤال التالي: ما السر في أن يظل الكورد، ورغم كل هذه القرون من التهميش وتحريف تاريخهم وطمس لغتهم وعاداتهم، من الشعوب الرئيسة في المنطقة، حافظت على ماهيتها على مدى أربعة عشر قرنا من الزمن، وعلى ديمغرافية تتجاوز الأربعون مليونا، وعلى لغتهم، ولم ينصهروا في بوتقة القومية العربية الإسلامية، مثل العديد من الشعوب الأخرى في المنطقة، رغم غياب السلطات الحامية لهم كالفرس والترك، لتفانيهم في الإسلام، وتعمقهم في لغة القرآن.
يتبع…
المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر الموقع
التعليقات مغلقة.