المجلس الوطني الكوردي في سوريا

محمود عباس: هل تحرر المثقف الكوردي؟..

183

هل استطاع المثقف الكوردي (يتضمن هنا شريحة من السياسيين، ولربما المرأة قبل الرجل) الفصل بين الفكر والذات، وهل بلغ مرحلة خلق مفاهيم تنويرية لهدم الماضي المأزوم، وعرض تلك المفاهيم على طاولة الحوارات لتنوير الحراك والمجتمع؟ هل تمكن من التأثير على الحركة السياسية، بدءاً من تصحيح مساراتها أو إقناعها للتحرر من الإملاءات الخارجية؟ هل قدم لشعبه مواد فكرية حضارية، أو ساعد شريحته بألا تتكالب مع الإدارات أو الأحزاب الكوردية على المنافع الذاتية؟ هل تحرر من المفاهيم التي فرضت عليه وعلى الشعب الكوردي تلقيها وعلى مدى القرن الماضي من قبل السلطات الشمولية المستعمرة لكوردستان؟ هل بلغ مرحلة مواجهة المفاهيم العنصرية الحديثة الصادرة من القوى المعادية للكورد؟ هل تخلص من الصراعات الشخصية، والأنا، ودخل مرحلة تفضيل الوطن على الذات والانتماءات الحزبية، والنزعات الأنانية والحسد من المثقف الأخر؟ هل بلغ مرحلة تقبل النقد والرد بالنقد الإيجابي؟

هذه الأسئلة وغيرها الكثير، تطرق إليها العديد من الكتاب الكورد، من جوانب عديدة، ومن وجهات نظر مختلفة، ولبعضهم دراسات ومقالات منشورة على المواقع، ومنهم من أسهم في إدراج فصول في كتبه، يشرفني ذكر أسمائهم، لكنني ارتأيت التنويه لئلا أغبن بحق البعض الذين قد لا يحضرني أسمه، فلكل من ساهم في هذا المجال المهم تقديري. ففي السابق وقبل فترة أطلعت على ما تمكنت الحصول عليه من خلال النت، فما ذكرته وما طرحه الإخوة الكتاب والمثقفين من أسئلة وأراء حول القضايا والمواضيع الفكرية أو السياسية-الثقافية، ورغم الظروف الموضوعية القاسية وانعكاساتها، تحتاج إلى حوارات طويلة، بل وربما إلى سجالات عنيفة، ليس فقط للخروج من الدوامة التي أسقطت الأحزاب الكوردية بضحالة معرفتها والسلطات الشمولية بخباثتها المجتمع الكوردي وحراكه الثقافي فيه، وأبعدتهما عن معاركهما الحقيقية، وفي مقدمتها الوقوف في وجه طغيان السلطات المستعمرة لكوردستان، أو لنقل سلطات الطغيان.

وهنا لا بد من الانتباه إلى توصيفات ضاره بدأت تنتشر بين المجتمع والحراك الكوردي والكوردستاني، جلبت من الدراسات الكلاسيكية رغم منطقيتها في الحيز العام، وهي حجج أكثر من أن تكون تصنيفا، ويضخم في الواقع الكوردي لتظهر متناغمة مع الصراعات الحزبية الجارية،  وتمر من خلالها غايات المتربصين بالكورد، ومنها تصنيفاتهم الكيدية للمثقفين الكورد، لتوسيع حلقات الصراع بينهم، فيوسمون البعض بالمتفرج، أو المتردد، ولم يسلم من هذا التصنيف حتى أولئك الأدباء البعيدين عن السياسة كل البعد، وبينهم من يتداول الفكر الأدبي دون الصراعات السياسية، وأخرى بالثوري الحازم لتصعيد النقد للسقوط في مستنقع التهجم العشوائي، بينهم كتاب الأحزاب، أو الناصر للحق، والحق جدلية نسبية، والبعض بالمتواطئ، وغيرها من الأصناف التي لا نشك يوما أن للسلطات الإقليمية المحتلة لكوردستان الدور الرئيسي في نشر وتكريس هذه الأوبئة، لتوسيع الشرخ بين الحراك، وبالتالي النيل من قضية شعبنا الذي لا يزال في مراحل التحرر. ونحن بدورنا نتناسى أنه لحركتنا الثقافية خصوصية تختلف عن مثقفي الشعوب التي لها سيادة ودولة.

فماذا ينقض وينقص حراكنا الثقافي الكوردي لتبلغ سوية الحركات التنويرية الأوروبية في القرون الماضية سوى دولة، أو لترقى إلى سوية الحركة الثقافية الفرنسية التي انقسمت إلى جماعتين مختلفتين في طروحاتها، في نهايات القرن الثامن عشر، والذي شارك فيها أميل زولا وأندريه جيد ومارسيل بروست وجان جوريس وغيرهم؟ والذين تجاوزت صراعاتهم الواقع الأدبي إلى السياسي، ومقالة أميل زولا ” أني أتهم” خير دليل، والطرفان رغم خلافاتهما أرتقوا بأساليب النقد الموضوعي والمنطقي إلى سوية حركة تنويرية شاعت مفاهيمها في أوروبا والعالم.

المثقف الكوردي كغيره من مثقفي الشعوب المستعمرة في شرقنا، تكونت مفاهيمه ومعارفه وتقييماته للقضايا من بيئته الاجتماعية، ومن المؤلم أن بيئتنا تحكمت في معظم شؤونها ومفاصلها الأنظمة الشمولية، التي أذاقت مجتمعاتنا وحراكنا شتى أنواع الاضطهاد، وتجاهلت مطالبها على مدى القرن الماضي، فقد ساد هذا  الواقع منذ فترة الاستعمار الفرنسي وحتى اللحظة، ومن أبرز سماتها العنصرية وإلغاء الأخر، وبالتالي فجل صراع حراكنا هي من مفرزات تلك المراحل، وأغلبيتنا لا زلنا نحملها بل ونتمسك بها بطريقة أو أخرى رغم مجريات الأحداث الكبرى في المنطقة وهجرة شريحة واسعة إلى العالم الحضاري، لا زلنا نتمسك بسلبيات الواقع الماضي، والمؤدية إلى النكوص وليس التحرر، ورغم معرفة أغلبيتا للواقع، لا نتجرأ في إماطة اللثام عن الحقيقة.

ومن المساوئ والتشوهات السائدة حتى اللحظة، في البعد العام، الانجرار وراء العامة لا قيادتهم وتوعيتهم، ونساهم في صراعاتهم ونتناسى البحث عن الحلول لها، وبالتالي ننقسم ونزيد الشرخ بين المجتمع والقراء إلى على مقاس الأحزاب الكوردية التابعة. وفي الحيز الذاتي، جلنا لا نقبل النقد، مهما كان بسيطا، ناهيكم عن النقد الجارح، وكثيرا ما يتحول إلى التهجم على خصوصيات الكاتب أو السياسي أو المفكر المنتقد. ولن ننسى الحسد والأنانية مكان الدعم والتقييم المنطقي، لتطوير المطروح أو على الأقل تنقيته من بعض السلبيات والنواقص. ولا يخفى المفهوم الدارج، حيث التحيز للأحزاب السياسية أو تبعيتها في الوقت الذي يجب أن تكون فيه الحراك الثقافي منورها، وأغلبيتنا ينحازون إلى سياسة الشجب والتهجم بدل محاولات التغيير بتقديم البديل الأفضل عن طريق الإقناع.

فلولا هيمنة هذا المنطق على الساحة لقدمت شواهد وأمثلة، أسماء وقضايا ومواضيع طرحت، ولتقدمت الكل وبأريحية على خوض هذه التجربة، مع بعض المختلفين، فكريا أو سياسيا، من الإخوة الكتاب المأمول منهم تنوير المجتمع والحراك السياسي، وخلق حلقات الحوار لتنقية الذات قبل الحراك السياسي والمجتمع، ولا تعني هذا أنه تنقصنا جرأة مواجهة الحوارات، بل لأن أغلبيتنا نحمل الكثير من مخلفات الماضي المضر، فللحذر أو لحساسية المواجهة بحد ذاتها هو ما ينبهني ألا أخوض غمار الأسماء وذكر خصال البعض من الحراك الثقافي أو التطرق إلى الخلاف مع الأخر حول المطروح، إلى جانب أنني أرى أن جل مصائبنا تأتي من سلطات القوى الإقليمية، وهي التي يجب أن نواجهها ونركز عليها بكل قوانا، فالتركيز على مهاجمة الأحزاب دون المحتلين يؤدي إلى التآكل الداخلي، ويحول دون معرفة ما تخططه الأنظمة المعادية. فلماذا لا نملك قدرة المواجهة التي استخدمها كل من سقراط ضد جور الحكام، وفولتير في إقناع ملك فرنسا والبرلمان على إعلان براءة كالاس والتعويض لذويه عن الغبن الذي لحق به؟

وسيكون من دواعي سرورنا خلق مثل هذه الحوارات، وظهور شريحة رائدة للخوض فيها بالحيز التنويري، شريطة أن يعفى النقد من الشخصنة، والابتعاد عن التضخيم في التقييم، ولا شك تجري الأن على الساحة مثل هذه، لكن جل ما يتم عرضه وتحليله أو مناقشته حتى الأن، ساد فيه إما السلبية المطلقة أو الإيجابية المفرطة، والقلائل من الكتاب تمسكوا بالحكمة والمصداقية. أي بما معناه، نهدم أو نساعد في الهدم، فالوصف الزائد مثلها مثل التهجم، ولهذا علينا أن نبني لا أن نهدم، نسهم في التغيير إلى الأفضل لا أن نزيد الشرخ بين المجتمع أو بين أطراف الحراك، أن نترك أثر طيبا عند الجيل القادم والقراء والشعب الذي في حاجة ماسة إلى نوعية حضارية من المفاهيم والمواضيع، لا أن نعيد تجارب كتبة البلاط أو الذين يمجدون ثقافة السلطات ويجترونها رغم التغيرات الكبرى.

المثقف ولا نعني المتعلم، هو المركز، فكلما كان حرا في مفاهيمه، ومتماهيا مع قضايا مجتمعه شع تنويره وجذب المجتمع إلى ذاته، و يسعدني هنا أن أستشهد بمقولة للباحث والناقد الكبير (إبراهيم محمود) من مقال له نشر في موقع (ولاتي ما) وموقع الأنطولوجيا السرد العربي، تحت عنوان (سؤال المثقف الكردي) يقول ” بينما المثقف فهو رغم كونه كوردياً، يبقى ماداً بنظره وبصيرته إلى الجهات كافة، فيكون الكوردي وسوى الكوردي محط اهتماماته، إلى جانب القضايا الكبرى” ويضيف ” السياسي مفتوناً بالحساب غالباً، بينما المثقف بالهندسة، إلى درجة أن السياسي نفسه موضوع من موضوعاته” وما أسهل اليوم الوصول إلى أذهان أكبر عدد من القراء وبالتالي التأثير على المجتمع، مثل بساطة الحصول على المعلومات ومعرفة الثقافات القيمة السائدة في العالم الحضاري، وبلوغ سدنة السياسيين الذين هم في حاجة ماسة إلى المساعدة، وإنقاذهم من معضلاتهم، وتحرير حراكنا، وتنبيههم من مغبات الانجرار إلى الصراعات الحزبية حيث الإملاءات الخارجية السائدة تحت أغطية واهية.

 

المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر الموقع

التعليقات مغلقة.