المجلس الوطني الكوردي في سوريا

محمود عباس:  هل ستتفتت تركيا كالإمبراطورية العثمانية   2/2..

121

   الانهيار بدأ يظهر بشكل جلي، وخاصة في ميزانية الدولة والعجز التجاري، والمتوقع بلوغ الأولى في ميزانية العام القادم إلى قرابة 300 مليار دولار، وفي الثانية في نهاية هذا العام إلى حواف 12% من قيمة الدخل القومي البالغ 3 تريليون ليرة تركية، أي قرابة 780 مليار دولار قبل هبوط سعر الليرة، والوطني والذي وقف على حدود 1 ونصف تريليون دولار عام 2017م وبنفس سعر الليرة قبل هبوطها الحاد، والذي كان متوقعا أن تتجاوز حسب تقرير صندوق النقد الدولي 2 تريليون دولار، ولتصبح الدولة الثالثة عشرة في العالم، والخامسة أوروبيا، لكنها وبعد موجة التدهور ستكون الأرقام بحدود نصف المذكورة، ولن تظل بحدود الدولة 17 من حيث الناتج المحلي الاسمي، والـ 15 من حيث الناتج المحلي الإجمالي، والفرق الهائل بين القومي والوطني هو ما تبين مدى الدعم الذي كان يتلقاه أردوغان من الشركات الرأسمالية العالمية.

  وعلى أثر كل ذلك وتراجع الدعم الخارجي، تصاعد العجز التجاري وبلغ حدود 17 مليار دولار وهو ضعف العجز الحاصل في عام 2016م، وعلى الأرجح سيستمر في التصاعد مع هبوط الليرة التركية أمام الدولار واليورو، حتى أن البعض من المؤسسات المالية ذكرت أن العجز بلغ قرابة 80 مليار دولار، ثلثيها كانت بسبب شراء موارد الطاقة، على الأغلب الرقم الأخير فيه تضخيم، وتم ترجيح الرقم الأول، كما أن نسبة كبيرة من الطاقة مولت من إيران وروسيا، وهي إما تشترى بالعملة التركية أو بتبادل البضائع. مع ذلك من غير المعقول إيقاف العجز بالدعاية المقالة أنها وروسيا وإيران سيتعاملون بالعملة المحلية، وحتى لو حصل فهي قد تغطي نسبة لن تتعدى 3% من جملة العجز التجاري بناءً على الرقم الأول. ولضخامة التأثير تحاول تركيا أقناع الحكومة العراقية، ورئيسها وزرائها حيدر العبادي السماح للإقليم الكوردستاني بتصدير نفط منابع كركوك عبر أراضيها، للحصول على كمية من موارد الطاقة والعملة الصعبة، مقابل المرور. أو الاعتماد على قطاع السياحة، كما نوه أردوغان لتطمين الشعب، أن عدد السواح الروس سيبلغون ستة ملايين سائح، والتي في أفضل السنوات لم تتجاوز دخل القطاع السياحي 50 مليار دولار.

 رغم ذلك فأن نمو التطور الاقتصادي لا يزال متوقعا، تركيا، أن يكون بحدود 5%حسب سعر الدولار خلال هذه السنة والقادمة، والمحسوب تركيا بـ 11% وهي تخمينات عالية جدا في المقارنات الدولية، لأنها محسوبة بالليرة التركية وقبل هبوطها، ولم تتجاوز نسبة 9.5% في أعلى مراحل الدعم العالمي وذلك عام 2004م.

كما وأن ضخ كميات من السيولة التركية، حسب خطة المواجهة، إلى السوق لمساعدة الشعب في مواجهة التضخم المتصاعد، قد تؤدي إلى استقرار في السوق قليلا، لكن تنقذها، وسيستمر الانهيار إذا لم يحصل أردوغان على دعم خارجي. والعديد من الاقتصاديين يتوقعون أن التضخم وتدهور سعر السوق والليرة التركية قد تكون كارثية في المستقبل. وفي الواقع بدأ التأثير يظهر منذ فترة، منها نزوح الاستثمارات الخارجية من تركيا، وتباطأ في نمو بعض القطاعات، ومنها البناء، وعملية الشراء والبيع، وهناك شريحة واسعة من الشركات الاستثمارية يجمدون احتياطيهم من العملة الصعبة، ولا يشترون من الخارج، لبيعه في الداخل بالليرة غير المستقرة.

  وقد أسند أردوغان هذه العملية بوعد سياسي-اقتصادي قبل أيام، ذاكرا أنه لن يزيد من سعر الفائدة ما دام في الحكم، لكن معظم الاقتصاديين يؤكدون أن تجميدها في أدنى مستوياتها ستؤدي إلى نتائج سلبية، ومنها العلاقة بين حركة السوق أي المستثمرين والمصارف والبنوك. فالتجميد بسعر فائدة متدنية، ستقلل من نسبة أرباح البنوك، وبالتالي ستضعهم أمام عجز في السيولة، وستدفعهم إلى الإحجام في نسبة القروض على خلفية تراجع العائدات، وعليه فالمساعدات بدون دعم من البنك المركزي العاجز أصلا أمام تراجع الاحتياطي من العملة الصعبة، رغم ما تم إقراره من قبل صهر أردوغان، وزير المالية (براءت البيرق) بحرية التصرف للبنك المركزي، لن تؤدي إلى سد العجز الاقتصادي الحاصل في ميزانية الدولة للعام القادم، والمتوقع أن تبلغ قرابة 230 مليار دولار، فيما إذا لم تزداد، في حال اضطرت على دخول حرب مع الجوار أو غيرها، ولن يتوقف التضخم، وتدهور سعر الليرة. وعلينا ألا ننسى أن مدفوعات المستثمرين الأتراك للبنوك العالمية، المديونة لها، ستظل بسعر الفائدة المتفقة عليها قبل سنوات وبالدولار.

وفي الواقع علينا أن نعلم خلفية الازدهار الذي نعمت به تركيا في فترة أردوغان، لمعرفة ما يجري حاليا، والتي كما ذكرنا سابقا ورائها شركات رأسمالية عالمية وبعدة طرق منها:

1-     أيصال استثماراتها عن طريق الشركات التركية إلى مراكز في العالم الإسلامي وبشكل غير مباشر، وهو ما أدى إلى التدفق الهائل من السيولة نحو تركيا، وكنا قد ذكرنا بعضها بالأرقام. وحصول المستثمرين الأتراك على أرباح لم يكونوا يحلمون بها، وارتفعت سعر ليرتها بنسبة تجاوزت 3 ألاف بالمائة، بعد التدهور الاقتصادي وليرتها والذي امتد على مدى عقدين وأكثر.

2-    دعم السوق الداخلية التركية، وفتح أبواب التجارة الخارجية لها، والتعامل مع مستثمريها بالليرة التركية لرفع سعرها، وبهذه العملية تم إنقاذها من عجزها التجاري الدائم، بزيادة كبيرة في نسبة الصادرات، وبسند من صناعات خارجية تجميعية في تركيا، بينها قطع تغيير للأسلحة الأمريكية والإسرائيلية ودول حلف الناتو.

لا شك تزايد وتيرة الاقتصاد التركي في الفترة التي جاء فيه أردوغان إلى الحكم 2003م، أعطته القوة في إحداث تغيرات هائلة على المستويين الاجتماعي والسياسي، متبجحا بها وبالنجاحات الاقتصادية، وهو ما أدى إلى تضخم في الذات، ولربما انحراف في الشخصية، ليبلغ حد جنون العظمة كما يروجها بعض الإعلاميين، ولذلك كان له إشكاليات مع أعضاء من حزبه.

   وبعد الخطوات القيمة كتمكنه من القضاء على منظمة أرغنكون ومجموعة الكماليين، حول تركيا من نظام علماني إلى نظام إسلامي متشدد، ومن برلماني إلى رئاسي شبه مطلق، وحول السلم مع حزب العمال الكوردستاني إلى حرب شرسة، كما نقل تركيا من صفر مشاكل مع الجوار إلى جملة من المشاكل والصراعات مع القوى الداخلية والإقليمية، وليصعد إلى الصراع مع حلفائه الاستراتيجيين والذين لا نظن أنه بدونهم ستستمر تركيا، وهي أمريكا وأوروبا ودول حلف الناتو وإسرائيل، وهنا بدأت مسيرة أردوغان وحزب العدالة والتنمية بالهبوط الحاد، علما أنها كدولة كانت لا تزال تملك بعض الأمل بعدم الانجراف إلى حكومة تدعم المنظمات الإرهابية الإسلامية والحفاظ على وتيرة النمو الاقتصادي المتصاعد، قبل بداية تقليص الشركات العالمية الرأسمالية دعمها.

   وبوادر سقوط تركيا كنظام اقتصادي متماسك، تشبه كثيرا ما حل بالإمبراطورية العثمانية الإسلامية المنحرفة من المذهب السني شبه الصوفي، إلى التكفيرية بعد حروبها مع روسيا والدول الإقليمية كبلغاريا واليونان، واستناد خليفتها على التعصب الديني، لمواجهة الشعوب الأخرى وخاصة غير الإسلامية، والمؤدية إلى الصراع مع الإمبراطوريات الأوروبية المتصاعدة، في الوقت الذي كانت تغرق تحت ديونها الخارجية والبالغة قرابة 5 مليون ليرة ذهبية، وهو المبلغ الذي تكفل بتسديده ممثل اليهود، هيرتزل، مع إضافة 5 ملايين أخرى للسلطان عبد الحميد ذاته كهدية، المسألة التي لها إشكاليات عديدة، وتحتاج إلى دراسة مفصلة ومنفصلة.

  كما وأن وضع تركيا الأردوغانية، الديني والسياسي والدبلوماسي لا تختلف كثيرا عن ماضيها المنبثق منه، يوم بلغت مرحلة العزلة الدولية على خلفية مواجهتها كل الأطراف بوقوفها مع ألمانيا العنصرية، ولم تحافظ على حليف يثق به، فلم تكتفي الدول الكبرى حينها بالتخلي عنها، بل بالتخطيط على تقسيم ممتلكاتها، ومساعدة الشعوب للتحرر من احتلالها، وهو ما تم لبعضها، وتشكلت الدول العديدة في المنطقة من ولاياتها، وهذا ما يتوقعه معظم المراقبين الاستراتيجيين، أن تحصل نتيجة مماثلة لتركيا الحالية في المنظور البعيد، وتتفتت، وتحصل الشعوب المحتلة من قبلها على استقلالها، وسيادة جغرافيتها، ومنها كوردستان التي أصبحت يتيمة الإمبراطورية العثمانية، رغم  أنها تمتلك أكبر الجغرافيات والديمغرافيات، مع ذلك خرجت بلا دولة، من بين جميع الشعوب الأخرى.

  فحتى ولو استمرت تركيا كدولة متماسكة إلى فترة ما، تظهر فيها قوتها، وتبجحها، وتقوت بروسيا المحاصرة مثلها، من قبل أمريكا، ستظل معرضة إلى التفتت فيما لو استمرت، على مساعدتها للمنظمات الإرهابي الإسلامية المرفوضة من روسيا قبل أية دولة أخرى. وفي مواجهة أمريكا وأوروبا وإسرائيل، والذين قادتها يعلمون أن تركيا الأردوغانية تتجه إلى إعادة أمجاد الخلافة العثمانية عندما رفضت الهجرة اليهودية إلى أرض الميعاد، وخلقت حاجزاً بين تعامل الأديان السماوية في المنطقة، وخلق كراهية نحو اليهود في المنطقة بين المسلمين، وكانت من أحد الأسباب المؤدية إلى تفتت الإمبراطورية العثمانية.

  ستخسر تركيا الكثير كدولة كبرى، وستبلغ سويات لا يحمد أردوغان عقباه، لتمسكه بإعادة تجربة الخلافة العثمانية وتعصبه الديني وتجربة علاقاته المتذبذبة أو ذات الوجهين مع إسرائيل، ودعمه ليس للفلسطينيين كشعب وحكومة بل لحركة حماس الإسلامية الفلسطينية الراديكالية، والتي تعتبرها أمريكا وإسرائيل خط أحمر، تمس أمن الدولتين.

  لكن هنا وفي الوجه الأخر من المعادلة، تتناسى أمريكا والدول الأوربية وإسرائيل ومستشاريهم، أن أردوغان يتحول يوما بعد أخر، ليس فقط من مسلم معتدل إلى راديكالي متعصب، بل من نظام ديمقراطي إلى دكتاتور مطلق الحكم في تركيا، والانحراف الحاصل، كما ذكرنا سابقاً، هي حصيلة ما بلغته تركيا من القوة في مرحلة الدعم اللامحدود من الشركات الرأسمالية، وهي التي أدت به إلى تجاوز كل القيم في تبجحه، خاصة بعد أن تمكن من تغيير نظام الحكم، وبدعم شبه مطلق من حزبه، العدالة والتنمية، وأغلبية الشعب، وهو ما سيؤدي به إلى تحويل تركيا إلى دولة مشابهة لألمانيا النازية بعد استلام هتلر السلطة بالانتخابات.

  فمهما تدهور الاقتصاد، وتراجعت الليرة فلن تؤثر على سلطته الدكتاتورية والمحبوبة والمدعومة حتى الأن من أغلبية المجتمع التركي الذي لا يزال تحت تأثير ما بلغته تركيا من المستويات العالمية الاقتصادية.  علما أن الجميع يعرفون أن الدكتاتوريات لا تسقط عادة بالطرق السياسية والدبلوماسية، ولا بالحصار الاقتصادي، والأمثلة في المنطقة والعالم كثيرة، وخير مثال إيران، وكوريا الشمالية وسلطتي البعث، وغيرهم في العالم، وبينهم العالمين العربي والإسلامي. وهنا فالمجتمع التركي سيكون الأكثر تضرراً في الحصار، فكلما ازداد الضغط الخارجي على سلطة أردوغان سيقابله بالضغط على الشعب، والحجج والتبريرات لمظالمهم عند الحكومات الدكتاتورية كحكومة العدالة والتنمية الإسلامية لا حصر لها.

المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر الموقع

التعليقات مغلقة.