المجلس الوطني الكوردي في سوريا

حاجو آغا هفيركي في ضيافة إبراهيم محمود ( الجزء الرابع ـ اقتصاد الأرض)

139

الكاتب .. فرمان بونجق
كنتُ قد أشرتُ في مقالتي السابقة إلى اقتصاد الأرض، هذا الاقتصاد، وهذه الأرض التي أفسح المؤلف الباحث إبراهيم محمود لهما حيّزاً يتناسب وأهميتها، ضمن فقرة وتحت مسمى “اقتصاد الأرض”، وهو يجيب من خلال البحث التاريخي على سؤال غائب حاضر، يكتسي أهمية كبرى لدى البُحّاث، وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق باقتصاد الإمبراطورية العثمانية، وكذلك الإمارات التي كانت تستظل في ظلها، ومن ضمنها الإمارات الكوردية، واتحادات القبائل أو تحالفاتها أيضاً، هذا السؤال الذي يأتي على في صيغته التالية: لِمَ سُميّت الإمبراطورية العثمانية بالإمبراطورية الزراعية؟.
قبلاً.. ينبغي أن أسرد مما جاء في كتاب (التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدولة العثمانية)، لمؤلفه خليل إينالجك بالتعاون مع دونالد كواترت،” في ظل النظام العثماني كان الشعب يتكون من مجموعتين أساسيتين: العسكري، وهي الطبقة الإدارية أو العسكرية، التي كان أفرادها يقومون بوظائف عامّة كممثلين للسلطان وكانت لذلك معفاة رسمياً من كل الضرائب، والمجموعة الثانية، الرعايا، أي التجار، والعمال، والفلاحون، وهي عمليا مجموعة من الناس التي تقوم بأعمال منتجة وتدفع لذلك الضرائب ـ بقيت الإمبراطورية العثمانية حتى سقوطها بعد الحرب العالمية الأولى، إمبراطورية زراعية، كما كانت على الدوام”.
من هنا أَوْلى إبراهيم محمود اهتماما باقتصاد الأرض، وهذا الاهتمام سيكون مدخلا للبحث في اقتصاد الإمارة أيضاً، والمقصود هنا إمارة بوتان، أو إمارة البدرخانيين، وكذلك سيكون مدخلا لاقتصاد القبيلة، لأن الأرض باعتبارها محور حياة الإمبراطورية، ومن استظل بظلها من أفراد وجماعات، بل ويتأكد لنا أن مكانة السلطان ومرؤوسيه تتعاظم بتعاظم المزيد من الاحتلالات للأراضي، خاصة إذا أخذنا بالحسبان أن كبار الباشاوات والوزراء ومن على شاكلتهم، قد استحوذوا على مصادر جديدة لتنمية ثرواتهم عبر استملاك إقطاعيات من الأراضي بصفة دائمة ومدى الحياة. وهذا يضعنا أمام حقيقة أن من يعبث بقانون الأرض، إنما يعبث بمقدرات الباب العالي كمؤسسة لها قدسيتها، المستمدة من مقولة أن السلطان هو ظل الله على الأرض.
مما تقدم، يظهر جليّا أن السلطة لا يمكن أن تغض الطرف عن أي عمل من شأنه الإخلال بثوابت الدولة، بل ستلجأ تلك السلطة إلى أسلوب القمع وبشدّة إزاء من يفكر ولو للحظة أن يتجاوز ثوابت تعتبرها السلطة ثوابت مقدسة، وعليه فإن جميع أجهزة هذه الدولة منخرطة كليّا في هذه المنظومة، وتحرص في كل وقت على تأمين مصالحا، والتي هي جزء من المصالح العليا للسلطان وإمبراطورتيه، مما يستدعي استذكار القسوة التي تعاملت بها قوى السلطة مع الثورات والانتفاضات الكوردية، ومثالنا على ذلك ثورة أو انتفاضة البدرخانيين، وعلى أية حال لم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي ينتفض الكورد ضد الإمبراطورية العثمانية، وتم التعامل معها بذات القسوة على حد سواء.
بالعودة إلى بدرخان بك، نقرأ لإبراهيم محمود وبين دفّتي كتابه (دولة حاجو آغا الكوردية): ولأننا بصدد علاقة السلطة بالمكان، أو بالعكس، ومن ثم طبيعة المكان والحدود السياسية التي تسميه، يمكن أن نشير إلى بدرخان بك مجدداً، وكأن أمثولة حيّة ومبعث إغواء للذين دانوا لسلطته بالقوة والإكراه، أو تقديرا ضمنياً بأنه أهل للسلطة السلطانية المصغرة وكونهم في الوقت نفسه يشعرون بسلطة داخل سلطة حيث يقيمون ويكونون أصحاب نفوذ، يمكن لنا أن نستشهد بما قاله جويدة عن بدرخان هذا في عظمته ونقطة ضعفه ( ما من شك أن بدرخان واحد من أعظم الزعماء الكرد الذين عرفهم التاريخ. فالطريق التي تمكن من خلالها من انتشال نفسه من الحضيض والوصول إلى قمّة النفوذ والثروة كافية للاقتناع أنه يمتلك صفات جد مميزة. بالنسبة إلى الكرد، كان الزعيم المثالي الذكي، له حضوره ويتمتع بإطلالة خاصّة تجعل الآخرين يهابونه ويحترمونه في آن. كان إنسانا شجاعا حازما في اتخاذ قراراته طموحاً، تقياً، وورعاً. ولا شك أن اجتماع كل هذه الصفات برجل واحد ستجعل منه عظيماً ولكن في الوقت نفسه قد يتحول هذا الشخص إلى نقيضه، إذ تتحول الشجاعة إلى تهور والعزم إلى عناد والتُقى إلى تعصب أعمى ).
ويعقّب إبراهيم محمود على آراء جويدة: هذا يشجعنا على تصور جغرافيا مرسومة ومحكومة بالإغلاق من الخارج من خلال نقاط مراقبة، أي باعتبارها جغرافية محتواه داخل أخرى، وأنها قد أوتيتْ قوة انفجارية وتحديّا يتهدد الأكبر منها، لتبقى في عزلة عن التاريخ البعيد والذي هو نفسه لا ينظر إليه مجرداً من المراهنات السياسية، أو لعبة المصالح بالذات، ولا بد أن أي تحدّ للسلطان في الحالة هذه، يرتبط بعامل الظرف أو الوقت، ويكون خارجيا، مثلما أن هذا العامل كان وراء تسمية هذه الإمارة باسمها، ونسيان أو تناسي ما يمكن أن تشكله الجهات الأخرى من أخطار، أو من تحديات، وليس تحدياً واحداً بالمقابل لحركة الإمارة.
ولكن، أين موقع هفيركان وآل حاجو آغا من هذه الأجواء؟. وكيف تم تفاعلها مع المعطيات المتوفرة باعتبارها جزءاً من الإمارة البدرخانية آنذاك؟. هذا ما سأعرّج عليه لاحقاً، تتبعاً لخطى الباحث إبراهيم محمود في قراءة درس التاريخ للتاريخ كما يعتقد .

التعليقات مغلقة.