أطراف خسرت، ومن ضمنهم الكورد، على الأقل في البعد القريب، والمؤشرات عديدة وواضحة، بدأً من الواقع الاجتماعي الاقتصادي للبقية الباقية من الشعب الكوردي في جنوب غربي كوردستان إلى خسارة أجزاء من جغرافيته (حتى في ذهنية البعض من الكورد وفي مقدمتهم شريحة متنفذه من الحزبيين الذين يأبون إلا أن تكون كوردستان مقسمة إلى ثلاثة أجزاء منفصلة عن بعضها جكارة بال ب ي د وإدارتها الذاتية، ولهذا يعللون ذلك بألف دليل ودليل التي لا تنتمي إلى الواقع التاريخي والجغرافي لهذه الأجزاء، وبمنطقهم هذا تخسر كوردستان مدن عديدة منها الحسكة وقامشلو وتربه سبي وكركي لكي وغيرها) إلى الشرخ الرهيب بين أطراف الحركتين السياسية والثقافية والمؤثرة بدورها على كلية المجتمع، إلى انتشار العديد من المفاهيم السياسية الخاطئة والمسمى بالإيديولوجيات، الشاذة بين المجتمع، والمؤدي إلى احتمالية تخلي القوى الكبرى عن قضيتنا، ولربما عن المنطقة الكوردستانية بشكل عام، مثلما حصلت لعفرين، رغم أن العامل الموضوعي وتلاعب القوى الكبرى والإقليمية بنا، كانت ولاتزال على رأس الأسباب، ومنها فرضهم علينا الخلافات والصراع على اللاشيء بالنسبة لنا ونحن توابع أو أدوات، ولمصلحة مسخرينا، والتي قد تؤدي إلى احتماليات تكرار تجربة عفرين أو مشابهة لها في الجزيرة، ومنها خروج أمريكا، باتفاقيات ما مع روسيا، والتي لم تتم في قمة هلسنكي، مثلما يتداولها المراقبون السياسيون، وهي أن القضية السورية لم يتم التباحث فيها بشكل حاسم، وظلت مفتوحة إلى حوارات تالية، ومن ضمنها الوجود الأمريكي في شرق الفرات وحلولهم للقضية الكوردية.
لا جدال أن الخاسر الأكبر هو المجتمع السوري الآمن بموزاييكه، خسر ربما حتى جزء من روحانيته أو لنتجرأ ونقل أبعاد من إنسانيته، فقد ظهرت بينهم شريحة ترى الإجرام طريقاً لوصول غايتها، وحيث انتشار القتل على الهوية والاسم والانتماء إلى المنطقة، وما يجري اليوم في عفرين من قبل مرتزقة أردوغان أو لنقل المنظمات التكفيرية العروبية المعارضة أخر مثال، وما يحصل في درعا والقنيطرة وفاجعة السويداء الأن من جملة جرائمهم، سبقتهما سبع سنوات من القتل المذهبي العنصري الممنهج.
فالمجتمع العام المسالم الذي سبق كل الأطراف خسارة، والذي ليس له حصة في انتصار أي طرف من الأطراف المتصارعة، يتم استخدام اسمه بنفاق، يتأمرون ويجرمون تحت دعاية الدفاع عنه، وفي مقدمتهم الانتهازيون والمنافقون من المعارضة السياسية وآخرون في السلطة، فهذه المعارضة بمنظماتها التكفيرية من جهة، والسلطة الإجرامية من عدة جهات أخرى، دمرا ليس فقط سوريا بل خلقا المآسي في العلاقات الدولية، وقضيا على العديد من المنظمات الإنسانية، وخلقا أزمات في المنطقة كلها تحتاج إلى عقود لحلها، وقد بلغت الكارثة إلى توسيع الشرخ بين القوى الكبرى، لدرجة أن البعض من السياسيين والمحللين بدأوا بالحديث عن حرب عالمية ثالثة، وسميت حرب سوريا بالحرب العالمية.
ومن جهة أخرى لا ينتبه البعض: أن السلطة خسرت قبل المنظمات التكفيرية، وتباهيها بالانتصارات وهمية، تنشر لإقناع الذات قبل الخصم. فرغم أن سلطة بشار الأسد لا تزال قائمة وستظل إلى فترة ما في الحكم، إلا أنها في الواقع الفعلي بين الحياة والموت، وصورها النمطية المشوهة رسخت بأبشع الوجوه في ذهن جميع دول العالم حتى عند الروس، عراب منقذيها من الموت، الذين يقدمون بشار الأسد منتصراً وهو واقف على جثة سوريا وعلى دمار المجتمع العلوي الذي كان حطبه. ورغم أن الكل يقيمونه والوضع من حيث مصالحهم الذاتية لكن ما خلقه والروس من الكوارث والجرائم والجروح التي لن تندمل لا تغيب عن ذاكرة البشرية.
يقال انتصرت روسيا في الحفاظ على الحكم، لكن يتناسون أن المنظمات التكفيرية بالمقابل استطاعت تغيير شريحة واسعة من المجتمع المتفتح العلماني إلى إسلامي تكفيري متشدد، خلقت ونشرت مفاهيم ظلامية بين الناس تعود بعضها إلى عصور الجهالة والانحطاط، وأبعدت قسم من السوريين عن المفاهيم الحضارية، وشوهت ثورتهم في أذهانهم والعالم، وهذه البنية الثقافية بحد ذاتها هي ما كانت تبتغيه المعارضة الإسلامية، وكانت تخطط له وتحلم به في حال استلامها للسلطة، وهو ما حصل في الفترة التي أستلم فيها الإسلاميون السلطة في مصر، ولا تعني هذا أن الحكم الحاضر أفضل منهم، ولربما في هذا البعد يكون الكورد ومنطقة الساحل السوري من ضمن المجتمع السوري تم إنقاذهما من براثن هذا الوباء الثقافي الاجتماعي، وخرج منتصراً حتى اللحظة، وهو ما لم يتخلص منه شعبنا في منطقة عفرينٍ، بعد أن تمت المتاجرة بهم وبمنطقتهم، فوباء الدكتاتورية بعكس التكفيري الذهني، يزول بمجرد القضاء عليه وبفترة قصيرة. فمثلما جروح سوريا لن تندمل على مدى قرن وأكثر، وروسيا قبل التكفيرين تحمل المسؤولية عن هذه الجرائم حتى وبعد زوال السلطة المجرمة، كذلك الكارثة والوباء الثقافي لن يزول على مدى عقود من الزمن، وهي من جرائم المعارضة التكفيرية الكبرى وإنتصاراتها.
فالمعارضة السورية المحرفة من الديمقراطية والسلمية إلى السياسية المنافقة والمخترقة والانتهازية إلى أحضان التكفيريين والإسلام السياسي العروبي، رغم ضمورها، أو لنقل ربما زوالها العسكري، في الواقع العملي هي المنتصرة (بين جميع الأطراف حتى ولو كان مؤقتا فيما لو سلمت السلطة لشريحة وطنية نقية) بعد تجار الحروب والسياسيين الانتهازيين، المنتشرين بين المعارضة والسلطة، لأن إعادة شريحة المجتمع المدمر ثقافيا، إلى ما كان عليه من التفتح تحتاج إلى جهود حركة تنويريه جبارة وزمن طويل، مثلما يحتاج المجتمع السوري إلى عدة قرون لنسيان ما فعلته بهم سلطة بشار الأسد وروسيا وداعميه، وستتوالى أجيال عديدة قبل التخلص من ألامه، وتنقية الإنسان السوري من الأوبئة الثقافية والاجتماعية التي غرزت فيه، وهذا يتطلب تأهيل فكري وتنمية ثقافية ودعم اقتصادي أعلى بكثير من الإمكانيات التي يملكها، في الوقت الذي ستكون فيه دعم القوى الإقليمية ترسيخ للتشوهات، وهذا بحد ذاته تدرجه المنظمات التكفيرية الإسلامية العروبية الانتصار الأكبر ويعتبرونه ترسيخ للإسلام الصحيح، ونلاحظ طفرات مثل هذه في جنوب وشمال كوردستان بشكل جلي، فثلما تعتبر الموجة الثقافية هذه انتصارا للمنظمات التكفيرية، أتباع ابن تيمية والقرضاوي، يعد وباء مدمر وكارثي للأمة الكوردية وللقضية.
مع ذلك يظل الانتصار والخسارة حالتين نسبيتين، مرتبطة بعامل الزمن، وفي الواقع الكوردي تتداخل التقييمات، والتحليلات، مقارنة بالماضي والمتوقع، لكننا ومنذ فترة وحتى حاضرنا بدأنا نخسر العديد من مكتسباتنا، واحتماليات الأكثر مرجحة، خسرنا الفيدرالية المتوقعة بلوغها البحر، أو على الأقل على وحدة جغرافية متماسكة من ضمنها عفرين وحتى حدود اسكندرونه، وإذا بنا نأمل بأجزاء من شرق الفرات وتحت مسميات لا علاقة كوردستانية بها، ولربما لن تتجاوز إدارة ثقافية شبه اقتصادية- سياسية، خاصة وأن الدستور السوري المخطط كتابته من قبل لجان جلهم من التكفيريين والعروبيين والبعثيين العنصريين وثلة من المنافقين والانتهازيين، بشبه غياب كوردي مقارنة بديمغرافيته، ورغم أن وجود الدساتير مثل عدمه في الأنظمة الشمولية الدكتاتورية والإجرامية كنظام بشار الأسد، والمتوقع إدراج بنود لحل القضية الكوردية بأبسط إشكالياته وأدنى مستوياته، وكما ذكرنا مرارا أن السلطة والمعارضة رغم كل الخلافات مفاهيمهم تتقاطع أثناء حضور القضية الكوردية.
وعليه يبقى اعتمادنا شبه الكلي على العامل الموضوعي، وعلى رأسها المحاورات التي بدأت بين أمريكا وروسيا، وحيث القضية الكوردية في أخر سلسلة المواد المتوقعة البحث والاتفاق عليها، رغم ذلك يرجح سطوع إيجابي، وهو مرتبط في البدء بالعامل الذاتي، وأوله مدى قدرة الحراك الكوردي على خلق ثقل أمام القوى الدولية وإدراج مصالحهم مع مصالح أمريكا أو روسيا.
فأمريكا (الحاضنة الحالية لجزئي كوردستان، وجزء من حراكه العسكري دون السياسي في جنوب غربها، مع تهميش الكثير من جغرافيتهما) والتي أصبح نكص العهود، والتردد في القرارات المتعلقة بمصالحها الاقتصادية، والتناقضات في استراتيجيتها، والازدواجية في علاقاتها الدولية، من سماتها المعروفة لجميع المراقبين السياسيين، ومن يريد أن يستند على دعمها بعد انتهاء مصالحها، عليه أن يملك إما الحكمة في الإقناع، أو أن يدرج هذه الخواص في الاعتبارات ويخلق أبعاد متواصلة لمصالحها، وهذه تتطلب حنكة دبلوماسية، وللأسف هي غائبة عند الكورد، وعليه في حال التخلي ألا نلوم إلا ذاتنا في حال بقينا في العراء وحيدين نجابه القوى الإقليمية والظلامية، وهذا الكلام يخصنا نحن الكورد قبل جميع القوى الإقليمية، فهم يملكون الكثير المغري لقادة أمريكا الحاليين خاصة.
وهنا لا بد لنا نحن الكورد من تجميع القوى والعمل على تشكيل هيئة توافقية بين أطراف حراكنا، يمثلون الشعب وليست الأحزاب، ومحاولة فتح أبواب حوار كوردي-روسي، ومثله كوردي-أمريكي على السوية السياسية، وإلا فليس لنا سوى الانتظار بما سيمنونه علينا ببعض الصدقات، حينها لا يحق لنا الترجيح بين الخسارة والانتصار، بل بين انعدام الحكمة والسذاجة، بين الأنانية الحزبية والوطنية، بين إدراك القضية وضحالة المعرفة.
المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر الموقع
التعليقات مغلقة.