في السياسة لا شيء ثابت ،ولغة السياسة تختلف على جميع لغات القطاعات الأخرى ،فالحقيقة العميقة و الخفية هي التي تظهر على أرض الواقع الملموس و ليس ما يقال أو يصدر ،لو رجعنا للوراء قليلا للاحظنا كيف تساهلت أمريكا و إسرائيل مع النظام الإيراني بعد سقوط نظام العراق ،بعدها سلموا العراق للنظام الإيراني و سمحوا له بالتوغل و التعشش في سوريا منذ بداية الثورة و اليمن…،وقبلها نفس الشيء حدث في لبنان على يد حزب الله.
بعد هذا التوغل بدأ تداول ما يسمى مشروع الهلال الشيعي الإيراني الذي هو في الحقيقة مخطط بريطاني فرنسي أمريكي روسي ماسوني ،علما أن الإيرانييين مجرد أداة للعمل لا أقل و لا أكثر ،فمنطقيا لو كان تمدد إيران يشكل خطرا على أمن إسرائيل القومي لما سمحت له بالتمدد شبرا واحد كما فعلت مع نظام صدام و جمال عبد الناصر…، لا يمكن نفي الصراع التاريخي الفارسي اليهودي التركي العربي المتجذر لكن أنظمة إيران و تركيا و العرب مجرد قواعد لا تملك أي إرادة و لا مشروع فقط موضوعة لإحكام القبضة على حركة شعوبها و شل نهضتها.
إن مخطط الهلال الشيعي تسعى من خلاله الدول العظمى المذكورة لبناء شريط حدودي بري لخنق بلدان الشرق الأوسط و بلدان الخليج على أروبا و الشرق الأسيوي لإضعاف المد العربي و الإسلامي إقتصاديا و شعبيا بشكل عام ، نفس الشيء تسعى له هذه البلدان العظمى في إفريقيا ببناء شريط شيعي جنوب صحراء الشمال الإفريقي لفصل الدول العربية عن الجزء الإفريقي الأسمر ،كل هذا الحصار الإقتصادي و الإستراتيجي يرجع إلى أسباب تاريخية متراكمة عرقية و دينية بين اليهود و النصارى ضد الأتراك و العرب مستغلين الفرس…
لا يمكن تجاهل أن ألمانيا ستكون هي الأخرى أكثر المتضررين من هذا الهلال إذ سيتم عزل تركيا كبوابة لها إلى الشرق الأوسط و الخليج…، حصار ألمانيا لسبب واحد هو مخاوف الأنظمة الرأسمالية العظمى من رجوع النازيين إلى سلطة الحكم ، لهذا تعمل أمريكا جاهدة لإخراج تركيا من تحت النفوذ الألماني بتقديم الكثير من التنازلات من بينها تعليق حزب العمال الكوردستاني pkk على قائمة الإرهاب…
لو دققنا جيدا فيما يجري حاليا على ساحة الشرق الأوسط سنستخلص أن الوحيد الأوحد من أفشل وصل نقاط المخطط الشيعي فيما بينها من العراق إلى سوريا هم قوات البيشمركة بقيادة “مسعود بارزاني” (بينما كل النقاط تم وصلها في لبنان و العراق و سوريا) ، بالخصوص في مناطق نفوذ “مسعود بارزاني” كما يتداوله الإعلام الكوردي نتيجة أن هذا المعبر البري مبرمج من مناطق البارتي الكوردستاني ، لهذا إيران تحارب البارزاني في نفوذه بدل مناطق السليمانية كون هذا المخطط سيمر من شنكال إلى معابر إقليم كوردستان تجاه سوريا.
طرح هذا الطلب للبارزاني قبلا من طرف إيران بفتح معبر بري لوصل سوريا بكوردستان “باشور” لوصل العراق إبان حرب داعش بحجة نقل المستلزمات من إيران الى إقليم “باشور” دخولا إلى سوريا ،لكن هذا تم رفضه رفضا قاطعا من طرف البارزاني لأنه كان يعلم أن هذه مجرد خطة للإيقاع به و بالإقليم عامة.
لو تم التدقيق جيدا في مشروع داعش على إقليم كوردستان “باشور” و أهدافها المرسومة في إجتياح المناطق الحدودية بين كوردستان باشور و روجاڤا لإحتلال المعابر الحدودية و فصل إقليمي كوردستان عن بعضهما بالقوات العراقية و الحشد الشعبي الغاصب ،أي نفس ما يطمح له مخطط الهلال الشيعي على يد الحشد الشعبي و القوات العراقية عند هجومهم على معبر ربيعة و فيشخابور ،ما يوضح أن مشروع داعش و الحشد الشعبي و القوات العراقية كان واحدا في هجومهم على كوردستان باشور ، علما أن داعش لم تهجم على مناطق نفوذ الإتحاد الوطني الكوردستاني أبدا.
إن الإختلاف الذي نراه في الصراعات الفوقية بين القوى العظمى المتشاركة في المخطط هي مجرد صراع تبحث من خلاله كل قوة دولية إلى بسط نفوذها و كسب الريادة و الإمتيازات الكبرى من المخطط ، مع العلم أن المخطط متفق عليه بالإجماع لكونه قبل أن يكون اقتصادي و سياسي هو مخطط إستراتيجي أمني ذا موقف عرقي ديني تاريخي و فوبيا متوارثة مخافة أن يعيد التاريخ نفسه على أجساد النصارى و اليهود ، هذا كان سببا رئيسيا في خيانة أمريكا للكورد في كركوك و حاربت البارزاني كما تعمل على عزله عن السلطة كونه ضد المخطط شكلا و مضمونا ، بمعنى آخر أن هذه الدول تريد بديلا مطيعا للأوامر كجلال الطالباني و أوجلان و الأسد…
بعد أحداث خيانة “كركوك” حدث شرخ كبير بين بريطانيا و أمريكا بخصوص المناطق الكوردية المحتلة (المتنازع عنها) بسبب رغبة البريطانيين في إحتواء العراق بشكل كلي ، كما إنقلبت حكومة العراق ولاءا لبريطانيا عوض أمريكا ، وقطعت حكومة العراق قنوات النفط على تركيا بإتجاه العراق و إيران بأمر بريطاني ، خلف هذا ردود أفعال امريكية قوية إعتبرت فيها أمريكا بريطانيا خائنة، أي ما زاد من حدة الإجراءات الأمريكية ضد إيران لإضعاف النفوذ البريطاني و تهديد مصالحها سواء بإيران و العراق ، خلالها دعمت أمريكا الإنتفاضة الإيرانية و العراقية دون السماع للطلبات البريطانية و الفرنسية.
مجددا من جهة أثبت “البارزاني” أنه الحليف الرئيسي لأمريكا الموثوق في العراق لتقليص التوسع الاقتصادي و الإستراتيجي البريطاني ، الشرخ الذي إستغلته روسيا بدورها لتتحالف مع أمريكا ضد بريطانيا قصد أن تتسع أكثر إقتصاديا هي الأخرى ، حيث أن ما نراه حاليا من تفاهم روسي أمريكي على النظام العراقي ما هو إلا نتيجة تصفيات حسابات دولية و قلب المعادلات و محاولة رمي بريطانيا على الهامش ، إضافة إلى ان روسيا إتخدت إستثماراتها الضخمة في إقليم كوردستان باشور و المناطق المحتلة ذريعة للدخول بوجه مكشوف ضد بريطانيا و نظام العراق في صف أمريكا ، فتصريحات المسؤولين الروس كانت واضحة جدا و التي تمشي وفق مصالح الكورد الإقتصادية و السياسية.
كانت زيارة “نيجرفان بارزاني” لتركيا و أروبا تحمل في طياتها العديد من الأسرار التي يكشفها الصراع الدولي الأمريكي و البريطاني ، إذ تمت دعوة رئيس حكومة إقليم كوردستان بدون الوفد النيابي الكوردي الثاني “قوباد طالباني” و بدون وفد عراقي ، علما ان الزيارة كانت من أجل المسالك و قنوات النفط و غاز المناطق الكوردية المحتلة التي كان من المفروض أن تتم بموجب زيارة وفد عراقي كذلك لأنها تدخل ضمن مناطق المادة 140 ، إلا أن الزيارة تمت بدون دعوة أي وفد تابع لإيران أي بريطانيا ، ما يطرح ألف سؤال تقابله إجابة واحدة هي أن محور البارزاني قلب الطاولة على الجميع سواء عراقيا و كورديا.
شروط “مسعود بارزاني” المتمثلة في تطبيق المادة 140 و إخراج الحشد الشعبي و القوات العراقية من المناطق المحتلة للمشاركة في تشكيل الحكومة الإتحادية العراقية لاقت الرفض القاطع ، إذ ترى كل من إيران و بريطانيا و العراق أن مشروعهم سيتم إرجاعه للوراء أو إفشاله ، أي ما جعل إيران تلعب بورقة الضغط على الإقليم بالهجوم العسكري المدفعي قصد إرغام البارزاني بقبول الدخول في تشكيل الحكومة بلا أي شروط مسبقة ، قصد تنفيس الأزمة العراقية القائمة بوهم تشكيل حكومة كرتونية جديدة تطفئ الغضب الشعبي العراقي.
إن المعادلات السياسية و الإقتصادية إنقلبت بشكل مفاجئ و التي يستغلها الكورد بشكل جيد إلى حد الآن ، مع العلم أن دعوة المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” للرئيس “مسعود بارزاني” تنصب نتائجها في نفس الحرب الباردة و التي تسعى فيها ألمانيا لوقف النفوذ الإيراني (البريطاني) الماشي تجاه الحدود التركية و الإقليم أي إفشال ربط نقط مخطط الهلال الشيعي الإيراني ، مع العلم أن ألمانيا من دعمت البيشمركة في حروبها ضد الحشد الشعبي و القوات العراقية بعد سقوط “كركوك” في “بردي ” و “مخمور”…ضد تمدد الهلال الشيعي الإيراني البريطاني ،فمن خلال تضحيات و صمود البيشمركة تم إفشال هذا المخطط إلى حد الساعة كونه ليس سهلا بسبب عقيدة البيشمركة التي لن تهدأ أبدا و التي لن تستقر معها مصالح الدول الكبرى ،إذ أن البديل المطروح الأساسي إلى حد الآن هو إستقلال كوردستان لحل إشكاليات القضية الكوردية قصد إستقرار شبه كلي للمنطقة ككل.
إلى هنا أود ان أتساءل رغم أن هذا السؤال يجيب على نفسه ، هل من دولة عربية إسلامية سواء بالخليج و شمال إفريقيا و الشرق الأوسط متضررة من مخطط الهلال الشيعي الإيراني حاربت إيران لوقف تمددها!؟ ، أو الأحرى هل من دولة عربية و إسلامية دعمت من يحارب هذا التمدد الإيراني ولو بالوكالة!؟ ، الجواب لا ثم لا ، فقط الكورد بالذات محور “مسعود بارزاني” وحده من حارب هذا المخطط و إلى حد الآن أفشله كإنجاز تاريخي يحسب لزعيم كوردي و لم يحسب لقادة دول الخليج و الشرق الأوسط و الشمال الإفريقي ، ما يؤكد بصدق المثل الذي يقول “التاريخ ليس بالكم”.
التعليقات مغلقة.