على أكتافهم غبارالمكان، جاؤوا في مواعدهم-إنه الصيف ذروة غيظ وقيظ- دون أن يستبطئوا نجمة، أوطائر كركي، اللهاث، وقرقعة المعدن، وصوت المحرك، ورائحة المازوت، في عنفوان هدأة الأمسية، علاماتهم أكثر من أن تعد هنا، أخاديد طويلة يتركونها، أنى حلوا، يوسعون دائرتهم، بعد أن ضاقت بهم الثلاثية، في وجهاتها الثلاث، أو أكثر من طريق خارج: الجزيرة، وعفرين، إلى هولير، أو السليمانية، كأن كوباني ممر للمجرات المائية، تخرجها من جوف المكان، هدايا من رذاذ لا تفتأ تشير إليه.
هم أنفسهم، الثلاثة، قبل أن يمضي بهم الاضطراد، ليصبحوا ستة، ومن ثم تسعة، أو اثني عشر، يزدادون إلى رقم أكبر أكبر في الفلك واللوغاريتما.
أسماء قرانا متشابهة..!؟
وبقايا اللفظ التركي علامة فارقة كما العربية من جهة مقابلة لديكم
لا يفتأ يقولها الواثق من بينهم، وهو يوزع لفافاته على ضيوفه
أثرنا ماء
أثرنا دوال
أثرنا ورود
أثرنا خيلاء وظلّ نعناعي
لاتزال مفردتي على آلة الحفر بخطي: ذكرى..، مضافة لاسمي محفورة، في المكان ذاته، راحت عني إلى قرى ومدن كثيرة، وشتت في”كوباني” كما تدل حاشية من التعليقات، قرب أثري، ياللخط وفياً، لايخذل صاحبه، خيل إلي أن أذهب في شتاء قادم إلى هناك، إلى بيت شقيقتي، أبحث في المدينة التي أعرفها شارعاً شارعاً، وأتقن فروقات اللهجة، وآداب الجلوس، كما ينبغي، أمضي هناك مايكفي من الوقت، للاستزادة من الحكايات التي استمعت إلى بعضها، عن طريق سفيرتنا هناك، ومن ثم صغيراتها-قبل أن يكبرن الآن -كنت أنظر إلى المسافة، وكأن قارة أخرى، سرقت هؤلاء الأهلين، هناك:
-ماأوسع وطني..!
قلت العبارة لأبي، وأنا أذهب معه إلى “تل أبيض” في ضيافة صديقه”المفتي في مابعد” الملا إبراهيم -ويكاد يشبه اسمي لولا الفارق في ظل القراءة حسب الرواية والواقع- يرويان قصص الكتاب، في خزنة، أوتل معروف، وكانت تلك محطة إلى”شيران” حيث شقيقتي ، أطفالهما، محيط الأسرة،، آل الشيخ صالح الكرمي، الكتب التي تشبه كتب أبي، وهي نفسها التي سأجدها، في مكتبة البيت، بعد أن تحطّ في كوباني، التي سأعرفها، حين يحل بها أبناء عمومتي، حين يحل بها أبناء شقيقتي، حين يحل بها رفاقي الحزبيون، وتستقطب الأمسية الأيارية أصدقاء آخرين، وآخرين، وأكرر العبارة، ذاتها:
-ما أوسع وطني..!
العبارة التي سأقولها في عفرين، وأنا في موكب تشييع الشاعر حامد بدرخان إلى مثواه الأخير، أو أقولها، في كوردستان الشمالية، أتتبع أثر جدي، بين السهل والجبل، أو حين أحل ضيفاً على”دهوك” أو”أربيل” و”السليمانية” كي أجد الرجال هؤلاء، وقارهم، صرامتهم، إباؤهم، خيلاؤهم، لهجتهم نفسها، علبة الدخان نفسها، شايهم الثقيل نفسه، أشربه وأنا في طريق العودة من “بارزان” مع آخرين، أسألهم: هل تتذكرونني؟، يسألونني: هل تتذكرنا؟، يستجرُّنا الحديث عن ذلك المكان، والوجوه المشتركة بيننا، ومجايلين لي، هم الآن في ليبيا: وهل في آمد، أو مهاباد، لكم خيم كهذه مضروبة؟، نتحدث، هذه المرة، أكثر، عن الحدود، والخط الحديدي، والتبغ، والهجرات، وسرِّ الحفر، وقبيلة الأخاديد المتروكة، أنى حلوا، لا يبقى شيء لم نقله، قبل أن نستقر إلى شبهة الخمرة، تكاد تنسيني -الآن- عن التدوين.
لقد اختفوا فجأة…!
أو كيف اختفوا..؟
لقد ظهروا
في العام 2004
استمعت إلى أصواتهم، واحداً تلو الآخر، عبر الهاتف، نواصل دائرة الأسئلة التي بدأناها منذ 1968، ثمة دم يظهر في”البئر الإرتوازي” بزمر في عنقود واحد، تدل على أسماء تنوس بين”قامشلو” و”ديركا حمو” و”حسكة” و”عفرين” و”كوباني”، نعدُّ أكثر من سجل: أحدها للشهداء، والثاني للجرحى، والثالث للمعتقلين، ونكاد نستظهر الأسماء، كلها تعود إلى الأسرة نفسها، وقد ثقل بها الحبر، ثقلت بها المنفردات، وخطّ مقبرة الشهداء، في جهاتها الثلاثة، وكأن الراوي سفير الألم، يسويه سرداً، أو خميرة قصيدة، مؤجلة، أو نص مفتوح، كما هو الحال -الآن- كي يتأخر ردي ست سنوات، على زيارة سابقة في يوم عيد العمال العالمي، عندما كان الحصار من جهة واحدة، جهة موزعة على جهات، أخذت بطاقاتنا الشخصية، وكأن تمهيداً يتم، وكأن المحقق نفسه، يخلع البذلة، ويطلق اللحية، ويحفُّ الشارب، يحفُّ الإزار، ليعود إلى بوابات الجهات الثلاث، يستبدل رشاشه الأوتوماتيكي، بأسلحة ممهورة بمصانع الشرق والغرب، جاؤوا يردون على الماء الذي وزعوه، أعمدة نار، من الجهات الثلاث للمدينة.
كوباني الآن تحفر على ريقة مختلفة
تحفر الخندق
تحفر القبر للعابر في عطن مفكرته
يظن الاخضرار بوابة
لمخادع الحوريات
يظن ينابيع الماء
السلسبيل المنشود
هو غارق في قراءة الأضلولة
لا مخرج له منها
وهو يسير وفق الكروكي المخطوط
لم يكن يدري أن هنا
غير الماء
جحيم كردي
لم يذكر الجغرافيون استحالة معبره غزواً
حورية الكورد
شأنها مختلف
تترك رصاصتها الاحتياطية
لجمجمتها قبل أن يصلها الرجل المستذئب
أو تهندس جسدها في”مشتى نور”
في مواجهة السعير الموقوت
-تلك هي صانعة الملحمة..!
-ذاك صانع الملحمة..!
الحفارون، أنفسهم، في مهمة أخرى، يخرجون الحجارة لمنجنيقاتهم، في ظلِّ الضلع الرابع، المنغلق، أصلاً، لم يغادروا مكانهم، آلاتهم في صور مموهة كما عربات الدفع، والمدافع، والدبابات، تصدر أصواتها، تستعيد أسطورة”البرزاني”، وهو يوعز بإشعال الفوانيس، تنتقل بها الجحاش، كما وقع آباؤهم من قبل في المصيدة، في الجهة المقابلة، أخطأ هؤلاء، هذه حفارات يستقر منقار هدهدها على الماء، يستخرجونه، لا نفط في المكان، وإن كانت بوصلة النفط بين يدي الحفارين، أمناء عليها، وعلى خرائطها، واثقين أن معجزة تتم، مادامت المدينة الصغيرة تهز أربع جهات الأرض، وسلسلة قاراتها، تشير إلى من دلوا هؤلاء إلى حتوفهم، هنا، ولا بأس مما يقع، مادام الأمر خياركم المدون ببطء، على امتداد ثلاث سنوات، أو أكثر، يتفقد الرضيع الحصوة، عسى ثدي أمه تقع بين غضاضة أصابعه، هولا يعلم لم سخونة الرصاصة لم تطفىء غير عينيه، ليرتمي بعيداً عن صدر أمه، في مسلاة لداعشي، أجرب، يبقى المشهد على ما هو عليه، في إطار الصورة يلتقطها القاتل ذاته، وهي لاشيء أمام فحيح القاتل عينه، يترجم في القميص المفخخ، يتحكم به
التعليقات مغلقة.