المجلس الوطني الكوردي في سوريا

محمود عباس: مصداقية الباحث العربي محمد جمال باروت مثالاً الجزء “الثالث والعشرون”..

187

قراءة في كتابه: التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية. 

حول الديمغرافية الكوردية وهجراتهم
فالكرد الذين انتقلوا من شمال الخط السياسي أو الحدود الجغرافية التي رسمتها تركيا الكمالية وفرنسا وبريطانيا، لا تندرج بناءً على القوانين الدولية ونظريات الهجرة ضمن مفهوم الهجرات الخارجية، أو الدولية، كما يصفها الكاتب، فالدول المتشكلة تحت اتفاقية سايكس-بيكو بقيت وحتى الأن غير معترفة بها ضمنا، والمتفق عليه، معظم الدول والشعوب، أن كوردستان قسمت بين أربع دول، والمؤامرة لا تزال حاضرة في ذاكرة أنسان الشرق الأوسط، والكل يعلم بأن العملية فرضت حينها إلى أن أصبحت مع الزمن مقبولة كرهاً، رافقتها عامل التحرر من المستبد العثماني لينتقل إلى أحضان مستبدين جدد، شكلوا دول وسلطات على خلفية المصالح الدولية والإقليمية.
لكن ورغم ذلك فإن التحركات أو التنقلات الكوردية لم تتجاوز جغرافيته، وتنساق ضمن الهجرات الفصلية أو على خلفية الثورات، وبشائع السلطات الإقليمية. وبعضها، بعد تقسيم كوردستان، تندرج ضمن الهجرات السياسية، فيما إذا كانت تحمل صفة الهجرات أصلا، أو حتى ولو كانت على خلفية بعض الظروف الاقتصادية الطارئة. لكننا والكاتب أيضا يعلم بأن هذه التنقلات، أو الهجرات حسب نعته، لم تتجاوز حدود كوردستان، بعكس ما حصلت للقبائل العربية، التي غزت الجزيرة الفراتية، وجنوب غربي كوردستان، قادمة من شمال أو عمق شبه الجزيرة العربية، متجاوزة ليست فقط حدود عدد من السلطات السياسية بل بيئات جغرافية.
ولهذه وغيرها من الثغرات، تبقى مثل هذه الدراسات غير علمية وخالية من المصداقية، لأنها تعكس غاية السلطات الإقليمية المجزأة لكوردستان، وتلغي رؤية الكورد وباحثيهم الذين لا يعترفون بالتقسيم ولا بالاستعمار المنتقل من الاحتلال الفرنسي البريطاني إلى استعمار السلطات الإقليمية الاستبدادية، كما وأن الإشكالية هنا تكمن في التناقض بين المفاهيم التي وضعها المحتلون الجدد لكوردستان وديمغرافيتها، والآراء المفروضة كقوانين، الملغيين مسبقا العلاقة الجدلية بين الكرد كشعب لم يغادر يوما جغرافيته، وبين من يحاول أن يعرض ذاته كأصحاب الأرض بتاريخ مفبرك، وطمس حقوق ديمغرافية كردية تعد من أكبر شعوب المنطقة نسبة، رغم قرون من التعريب والتتريك والفرسنة.
ولتمرير هذه الخدعة التاريخية، يقوم الكاتب بمزج الغاية الذاتية مع أكوام من المصادر العشوائية، عن القضية الديمغرافية، والهجرات، ويتناسى على خلفيتها الدراسات العلمية للإحصائيات السكانية، وهو الخبير بها من خلال أبحاثه السابقة، لكنه ولمعرفته التامة بعدمية النسب السكانية في المنطقة التي يوردها، وغياب المصادر المنطقية-العلمية التي يمكن أن تسند غاياته، يركز على التكثيف من المراجع، في قضايا لا تخص الإحصائيات السكانية للكرد وهجراتهم، وتحركاتهم المتتالية في جنوب غربي كوردستان قبل ظهور الحدود المصطنعة لسوريا الوليدة حديثاً.
ويكرر مفاهيمه حول التنقلات الكوردية مركز على إضفاء صفة الهجرات، ويقسمها إلى ثلاث موجات، ويفرز جميعها كهجرات خارجية، مع التناسي أن الخطوط الجغرافية المتشكلة لم تكن ذات اعتبار بالنسبة للواقع الجغرافي الكوردستاني والعشائر الكوردية التي كانت مراكز سكناهم غير منفصلة حتى عندما تشكلت الجغرافيات العشوائية، كسوريا والعراق. وبالتدقيق في مراجعه حول النسب السكانية تبينت لنا بأن معظمها تقارير صادرة من المراكز الأمنية للسلطات السورية، وبعض بيانات من قوى (الأمن الداخلي) و(مديرية الأمن العام) المرسلة إلى وزارة الداخلية السورية في فترة الستينات أثناء تصاعد السلطات القومية العروبية، إلى جانب استخدامه، إحصائية عام 1962م الجائرة، وكتابه السابق عن الهجرة، كمرجع، وتقرير قدمه (أكرم الحوراني) العروبي الغني عن التعريف، والحاقد على الكرد وآل البرازي في حماه، في تلك الفترة عن سكان الجزيرة، أما غيرها من المصادر فيوردها فقط للتمويه، وبدون سند علمي يثبت إحصائياته، وللتأكيد على ما نقوله أنظر( ص695-710).
ومن الجدير ذكره أن الكاتب محمد جمال باروت يحاول بطريقة ما، خاصة في فصوله النهائية، التركيز على شوفينية المرحلة الممتدة ما بين حكومة أديب الشيشكلي وحتى خالد العظمة، مرورا بعهد ناظم القدسي، وإحصاء 1962م الموبوء الذي حدث في عهده، ليبرئ ذمة سلطة البعث، وخاصة جناح حافظ الأسد، ويعطي لبشائعهم المسوغات الاشتراكية، والتعامل الوطني، وخلفيات تاريخية مفبركة ليبعد علاقة السلطات العروبية بها، بل والأغرب أنه يتهم الكورد بها تحت صيغة الهجرة غير الشرعية! فيقول في الصفحة(687) “” أدى تقييد الحكومة لتسجيل المهاجرين تحت اسم ” مكتومين” خلال الأعوام 1943-1950 للحيلولة دون ازدواج التبعية السورية والتركية إلى بروز مشكلة الهويات “المزورة” التي تم الحصول عليها بـ “طرق غير شرعية”، بحسب الوصف الرسمي. ولعل انتشار هذا النوع من البطاقات الشخصية(الهويات) في الجزيرة هو ما دفع الحكومة السورية التي كان يرأسها يومئذ ناظم القدسي في عام 1950 إلى أن تشير إلى أن من الأسباب الموجبة لمشروع قانون إحصاء السكان وتسجيلهم الذي قدمته حكومة القدسي إلى مجلس النواب… لكن لم ينفذ حتى عام 1960 بسبب نقص الاعتمادات”” ويلقي باللوم على المدراء المحليين، متناسيا بأن أغلبيتهم كانوا من حزب البعث العربي الاشتراكي، وكانوا ينفذون مخططات الحزب والسلطة! وعليه فيبرأ ذمة الحزب وسلطة حافظ الأسد عن الكوارث التي حصلت في المنطقة الكوردية، بدءً من موجات التعريب والتوجه الشوفيني، والاغتيالات والاعتقالات، ومخططات تدمير البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لجنوب غربي كوردستان، بل والأبشع أنه يتهم الحركة الكوردية السياسية والثقافية على خلفية مواجهتهم لهذه المخططات الشوفينية، بمعاداة البعث العربي الاشتراكي، وبالتعصب القومي، وبهذا الأسلوب يحاول تبرئة البعث وحافظ الأسد. والأغرب أنه مثل أغلبية المثقفين والسياسيين العروبيين بل والمحتلين الأخرين لكوردستان لا يقترب من حقيقة الاحتلال التي أرضخت لها الكورد قسرا، وأن الشعب الكوردي هويته كان يجب أن تكون هوية كوردستانية، وليست هوية ازدواجية، سورية وتركية، والتي لم تكن تعني للكورد أية قيمة، وطنية أو قومية، وظلت كذلك حتى اللحظة، ولا تزال مترسخة في صوره الذهنية النمطية عن الوطن، الذي لم يدرجوه ضمنها يوما إلا في الفترة الأخيرة، بعد صعود أسمهم في المحافل الدولية، والمكتسبات التي يحصلون عليها.
في الفصل العاشر، يحاول عرض دراسة عن التحول الاقتصادي لمنطقة الجزيرة، فتخرج ضحلة، وساذجة خاصة عندما يسخرها لغاياته السياسية:
1- عندما يتحدث عن التطور في الجزيرة في الأربعينيات والخمسينيات، مدعياً بأنها تنتقل من مرحلة رسملة الزراعة إلى مرحلة الصناعات التحويلية، ويسميها في الصفحة (537) بـ “كاليفورنيا سورية” المصطلح الذي روجت له السلطات العروبية إعلاميا لتمويه الخارج، للتغطية على الإهمال المتعمد، الذي كان يلاقيه الشعب الكوردي في الجزيرة، وهو يعلم بأنها كانت من ضمن الخطط الاستباقية لتهجير الكرد من جغرافيتهم عن طريق حصرهم ضمن حلقات العوز المادي الدائم.
2- وعندما يبحث في الصفحة(560) عن الخلاف بين رؤساء القبائل العربية القادمة إلى الجزيرة المدعومة من قبل السلطات العربية على أراضي الجزيرة، وتسليطهم على رؤساء العشائر الكوردية الذين كانوا أصحاب الأرض، ويضعهما في نفس الموازنة القانونية، متناسيا أن السلطات والمحاكم والقوانين والتشريعات كانت عروبية عنصرية، وكانوا يسمحون للعنصر العربي بانتهاك قوانين الملكية الحديثة الصادرة من الحكومة السورية، ومتناسيا أيضاً أن امتلاك رؤساء العشائر الكوردية للأرض كانت قد أقيمت على خلفية نظام مشابه للنظام الملكي، أي بالوراثة، وهو بعد اجتماعي مرتبط بالعلاقات القبلية، بغض النظر عن صحتها أو مساوئها أو إيجابياتها، أما أملاك رؤساء العشائر العربية البدوية، التي جاءت مهاجرة إلى الجزيرة، وتحضرت، كانت قد ساعدتها السلطات العروبية بالاستيلاء على أراضي العشائر الكردية، إلى جانب ذلك فإن مساحات أخرى من أرض الجزيرة الكوردستانية وضعت المراكز الأمنية العروبية يدها عليها وتم توزيع أقسام منها على مجموعات أخرى كانت لا تزال في حالة رحل، لكن رؤساء قبائلهم تمكنوا من الهيمنة عليها وإلقاء ملكيتهم عليها. وبالمناسبة فنحن لا نتحدث عن المستوطنات الأخيرة (مستوطنات الغمر) التي ظهرت موجاتها الأولى في السبعينات من القرن الماضي، وسبقتها عمليات الاستيلاء على مساحات شاسعة من أراضي كوردستان.
فالغبن المغلف بالخباثة هو حكم الكاتب على الديمغرافية الكوردية والقبائل العربية بنفس المنطق، والقصد منه نزع الجغرافية من الكورد كليا. لا شك بأنه يدرك أن منطق توزيع الأراضي على الفلاحين مخطط حديث العهد، قام به جمال عبد الناصر، لتعريب الجزيرة، لكنه وللتغطية على حقيقة جغرافية كوردستان المقسمة وعلى القضية الكوردية القومية في المنطقة، يطرح عدة قضايا، تحت غطاء الوطنية، وينتقل إلى مفهوم الاشتراكية، فيسرد جدلية الصراع الطبقي بين الفلاحين والإقطاع، عارضا النظرية الاشتراكية البعثية-الناصرية العروبية، وفارضا هيمنة سوريا كدولة ذات السيادة الوحيدة، مع إلغاء الوجود الكوردستاني…
يتبع…

التعليقات مغلقة.