محمود عباس: مصداقية الباحث العربي محمد جمال باروت مثالاً الجزء “الثاني والعشرون”…
قراءة في كتابه: التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية.
حول الديمغرافية الكوردية وهجراتهم
ما يذكره الكاتب بأن عشيرة الطي كانت تزرع القمح والشعير والأرز في شرق وجنوب نصيبين من جهة، وأنها كانت من عشائر الرحل في نفس الوقت، ودون ذكر اسم أي مركز حضري لهم في هذه المناطق التي يدعي بأنها كانت تذرع، ليس سوى استخفاف بعقول القراء وخاصة الذين لهم إطلاع على ديمغرافية وتاريخ المنطقة، ولا تتعدى سوى محاولة ساذجة وخائبة منه لإدخال العنصر العربي إلى مناطق الحضر الكوردي، علماً بأنه يدحض ذاته عندما يقول بأن أول مركز سكني مذكور في تاريخ عشيرة الطي تظهر في نهاية الثلاثينات، ويحددها على أطراف البادية الجنوبية لمدينة الشدادة، ودون أن يتمكن من تحديد الفترة الزمنية في بناء التجمعات الثلاث الحضرية وجغرافيتها وأسمائهم، وينسبها لأحد فروع الطي وتسمى (الغنامة) وهي لم تكن يوما زراعية، ولقبها تعكس مهنتها. وعملية تمليك الجغرافية الكوردستانية للعشائر العربية، على خلفية نفي الفرنسيين لرئيس عشيرة الطي إلى نصيبين، قد تدفع بالبعض بالقول إن جزء من جغرافية مكة والمدينة تابعتين لجغرافية الإمبراطورية الساسانية أي أراض تابعة لكوردستان الحالية! وذلك على خلفية نظرية الكاتب محمد جمال باروت، لأن سلمان الفارسي، أو جابان الكوردي والمعروف بأبو ميمون، ولوجودهما في المكة والمدينة كانا لربما يزرعان النخيل هناك وامتلكا أراض! ما أبخس القول عندما تغيب المصداقية في كتابة التاريخ. علما بأنه يتمم كتابته بهذا التناقض مع الذات ويقول إن أفخاذ عشيرة الطي كانوا متمسكين بالحياة البدوية الصرفة والآنفة من العمل الزراعي، أنظر الصفحة (334).
وبعكسهم عشيرة الملى وهي من العشائر الكوردية الأكثر اعتمادا على الرحل حتى نهاية القرن الثامن عشر، وتحولت معظمها قبل الثلاثينات إلى عشيرة مستقرة، ومن أصحاب (المدر) أي رؤساؤها يملكون قرى واستثمارات زراعية وشركات مع تجارة في المدن وكانوا يدفعون ضريبة العشر الزراعية للدولة.
مع ذلك يعود ويسقط في مغالطات والتناقض مع الذات في الفصل السادس، الجزء الثامن الصفحة (350) عندما يقول:
1- أن منطقة جنوب الحسكة وضفاف الخابور الأدنى كانت معمرة. ويضيف إن الجبور كانوا في عام 1850م يمدون دير الزور بنصف الواردات الضريبية! وفي الواقع أن هذا الكلام يتناقض مع ما يسبقه ويلحقه من حديث ومصادر يأتي على ذكرهم، لأن الجبور حتى بدايات عام 1930م كانت عشيرة رحل ولم تعرف السكن واقتطعت لهم الأراضي وبملكية للاستقرار في بداية الثلاثينات مثلما يتم ذكره في الهامش (105) من هذا الفصل، وفي مواقع أخرى يظهر ممثلي الجبور أثناء الانتخابات البرلمانية لعام 1936م وكانوا قد فرزوا ضمن لوائح المحاصصة، كقبائل رحل ضمن شروط الفرز البرلمانية في الجزيرة.
2- أصدق حالة وأقربها إلى الواقع بالنسبة للحالة الحضرية للجزيرة العليا هي للديمغرافية المسيحية، والتي لم تكن حينها منحلة في الانتماء العربي، وكانت لهم خصوصياتهم القومية، وكان أغلبيتهم أقرب إلى الكوردية من العربية، وما أورده الكاتب في الصفحة (366) الهامش(175) تتناقض وما ذكره سابقاً عن الحضر العربي في المنطقة.
ومن مغالطاته المتعمدة في الفصل السادس، عندما يحاول فصل جغرافية منطقة عفرين، من جرابلس وحتى مدينة عفرين، ويضمها إلى الجزيرة الوسطى، ويعزلها عن جغرافية جنوب غربي كوردستان، تحت تسمية الجزيرة الفراتية، وهو تقسيم جغرافي خاطئ، من الوجهتين الجيوسياسية والديمغرافية، ركزت عليها السلطات العروبية والتركية كثيرا في العقد الأخير، والكاتب يروج للخطة في الصفحة(376)، رغم إدراكه بانها منطقة كوردية جغرافية وديمغرافية لا يمكن فصلها عن الكل، ولذلك تمت في فترة الانتداب محاولة تدريس اللغة الكوردية فيها، رغم اعتراض مجموعة من البرلمانيين العرب. إلى جانب مغالطات تاريخية أخرى حول العشائر الكوردية ورؤسائها وعلاقاتهم مع سلطة الانتداب ومع الأطراف الأخرى من النسيج الديمغرافي الموجود حينها في الجزيرة، وكذلك خدماتهم لسلطتي الانتداب والعربية السورية. وتكراره لهذه الحوادث في عدة فصول ولعدة مرات جاءت للتغطية على حوادث تاريخية-سياسية أهم، تؤكد الحضور الكوردي في جغرافيته الكوردستانية.
رغم أن الكتاب يتبين ولأول وهلة كمجهود ضخم ، لكن مؤلفه لم يرقى إلى سوية باحث، فقد أقترف إلى جانب الفبركة، والتلاعب بالمصادر، والتكرار، وغيرها من الكتابات المتعمدة والتي بعضها ترقى إلى سوية الجنايات الفكرية والتاريخية، كالتي نحن بصددها، عملية التلاعب بديمغرافية المنطقة، والنسب السكانية للكورد بشكل خاص في غربي كوردستان، وتغييب أحد أهم القضايا التي تعرض لها الكورد جغرافيا وديمغرافيا، وهي نقلهم الإرضاخي من شعب يملك حرية التنقل بين مناطقه، إلى شعب جزأ بين حدود سياسية لم يعطوا لامتداداته العشائرية واللغوية والتاريخية اعتباراً في المنطقة، وبالتالي فرضت عليه عمليات التسجيل في دوائر النفوس، والحصول على هويات دول سياسية لا ينتمون إليها.
والكاتب هنا يفرض نظرياته بناء على عدمية الامتداد الجغرافي الديمغرافي الكوردي، منطلقا من الانتماء المطلق إلى السلطات العروبية السورية، وعليه يعرض جداول إحصائية إما لا سند لها، أو إنها صادرة من المراكز الأمنية لسلطتي البعث والأسد سابقاً، المتعددة المهمات، فيقول في الصفحة (694) “ستكون حصة الجزيرة في ارتفاع عدد السكان هي الأكبر قياساً على سائر المحافظات السورية الأخرى” وهنا، لا يأتي على ذكر المرحلة التي كان فيها الشعب الكوردي في المنطقة بكليته لم يكن ينتمي إلى أي كيان سياسي معتبر، ودون سجل، ولم تكن هناك إحصائيات، أو دوائر لتسجيل السكان، كما لا يود ذكر أن العملية الإحصائية هذه انطلقت من مرحلة العدم في التعداد السكاني إلى بداية تكوين دوائر للدولة السورية الحديثة. فمثلما حاول أن يلغي الخلفية التاريخية للوجود الكوردي في تلك المنطقة، عن طريق تحوير أسماء المناطق، وإضفاء الصبغة القبلية العربية على جغرافية المنطقة، ليطمر بها الوجود التاريخي لكوردستان، والتي أكتفينا بسرد تلاعبه في الصفحات الأولى، حيث التاريخ القديم، أي بدايات الإسلام، تاركين أكوام مثلها بدون رد، يحاول في الفصول التالية التلاعب بالديمغرافية الكوردية، من خلال تنقلاتهم الديمغرافية ضمن جغرافيتهم الكوردستانية، ومركزا عليها بشكل خاص في فصوله الأخيرة تقريبا.
رغم معرفته التامة لمنهجية الدراسات الديمغرافية، والهجرات، والتنقلات السكانية الواسعة والتي يتحدث عنها في كتابه المخصص عن الهجرات، وبالتفصيل في الفصل الرابع من هذا الكتاب، وكذلك في الفصول الأخيرة والتي يتناسى فيها واقع الكثافة السكانية بشكل عام في الفترات الزمنية المتتالية منذ بدأ الإسلام في العالم وفي منطقة الشام، وبالتالي في الجزيرة الكوردية، وحتى المراحل المتأخرة، كبداية القرن الثامن عشر، والتي لم تكن تتجاوز فيها عدد سكان جميع سوريا الكبرى مليون نسمة، وحسب بعض الإحصائيات، فقد كان عدد سكان سوريا مع لبنان عام 1920م أقل من المليون والنصف، وفي عام 1960م كان بحدود 4 ونصف المليون. مع ذلك يركز على أن الجزيرة كانت شبه خالية من العنصر الكردي، رغم أنه يناقض نفسه ويعود في بعض الحالات الضرورية ويذكر العديد من المراكز الحضرية الكوردية، وبعض عشائرهم في المنطقة، متناسيا جدلية الكثافة السكانية العامة في الكرة الأرضية.
لا شك أن أطراف الخابور وشمال الفرات الأوسط كانت شبه خالية ليس فقط من العنصر الكوردي والسرياني، ومعظم التجمعات البشرية المنحصرة في المدن الكردية القديمة في شمال سوريا الحالية، ومنها ومن أريافها كانت تنطلق القبائل الكوردية إلى مراعيها نحو الجنوب، والمناطق التي لم تبلغها القبائل العربية إلا في الفترات المتأخرة من الفتح الإسلامي، وهي كانت آنية، وتجددت في نهايات القرن الثامن عشر، ولم تشكل حضرا إلا في بدايات القرن التاسع عشر. وهي بدايات التحضر العربي، على ضفاف الخابور، والفرات الأوسط، وجميع الوثائق العثمانية والفرنسية لاحقا تؤكدها.
والكاتب ليغطي على هذه الحقائق، والتي تتعارض وبعض مصادره وغايته، يلغي الجغرافية الكوردستانية المقسمة بين الدول الأربع مسبقا، خاصة أثناء التعرض لديمغرافية المنطقة الجنوبية الغربية لكوردستان أي المحتلة من قبل سوريا، أو دراسة الهجرات إلى المنطقة أو ضمنها. كم ويتناسى معها حقيقة مهمة، وهي أن هجرات العشائر العربية الحديثة العهد إلى جنوب الجزيرة العليا، والفرات الأوسط، هي التي يجب أن توصف بالهجرات الخارجية، أو السياسية، بعكس تحركات القبائل الكوردية الطبيعية ضمن جغرافيتهم…
يتبع…
التعليقات مغلقة.