الحركة الثقافية الكوردية من أخطر القوى على محتلي كوردستان، فيما لو نظمت ذاتها، واستخدمت أدواتها بشكل صحيح، خاصة في مراحل النضال التحرري، بما لها من الإمكانيات، والأدوات المتنوعة المؤثرة، الواضحة منها والمخفية، وتزداد قوتها وتأثيرها كلما ازدادت عمقا معرفيا، وتمكنت من تجاوز الصراعات الداخلية، وركزت على المترصدين بالشعب الكوردي، ولمعرفة المحتل إمكانياتها هذه، ولألى تبلغ المراحل التي ستمكنها من إنقاذ الحركة السياسية، وبالتالي الشعب من الضياع، تحاربها بكل دهاء، وبعدة أساليب، وابشعها هي المستخدمة فيها شرائح البسطاء من الحراك الكوردستاني، وعن طريق التلاعب بمشاعرهم، معظمها بشكل غير مباشر، وعن طريق تعميق الخلافات الداخلية لتتناسى صراعها مع القوى الخارجية، وبالتالي تصبح مع معظم الأطراف الكوردية السياسية أدوات سهلة للاستغلال.
وأول النتائج الإيجابية للأعداء والسلبية لنا كأمة، نقوم كحركة ثقافية بتقويض فعاليات بعضنا، وبالتالي نفقد مصداقيتنا أمام شعبنا، مثلما حصلت للأحزاب الكوردية على مدى العقود المتأخرة، إلى أن أصبح تأثيرنا على المجتمع دون السويات المطلوبة بل وواهنة في الفترة الأخيرة، وتبينت على مستوى تبعيتها للحركة السياسية الأكثر تعرضا للخروقات وتقبل الإملاءات من القوى الإقليمية. وعلى أثرها لازال محتلو كوردستان ينجحون، مثلما نجحوا على مدى القرن الماضي، ليس فقط لقدراتهم الفكرية أو حنكتهم أو بعد درايتهم، بل لأننا على خلاف مثلما يخططونه، ونستخدم الأدوات البدائية ذاتها التي قدمتها لنا الأنظمة الشمولية بطرق غير مباشرة لنحاربهم بها، والتي تجعل من الصعوبة التحرر، وإنقاذ الأمة.
فحركتنا الثقافية رغم إمكانياتها لا تزال تعيش السلبيات، وتنشر الكثير من المفاهيم الخاطئة، ومنها تكريس ثقافة التمجيد والتخوين، تعظيم القائد وتأليهه، أو ابتذاله على خلفية الاختلافات الفكرية أو السياسية، أو لنقل الخلاف أو حتى التضاربات الإيديولوجية، ومعظمنا ليس فقط نشارك الحركة السياسية مطباتها بل نخوض فيها وكثيرا ما نبدع بتنويرها للسير في خلافاتها. نحن من لم نتمكن في تعرية مخططات السلطات الإقليمية عندما أوصلت بأحزابنا إلى حدود الاقتتال الداخلي، وبدل أن نكشف حقيقة مؤامرات الأعداء قمنا بتخوين بعضنا، علما أن معظم أطراف الحركة السياسية أدوات سهلة بيد إحدى القوى الإقليمية لسبب أو أخر.
وكنا ولا زلنا وراء توسيع الشرخ، لأننا نعرف كيف نكشف جوهر التناقضات الفكرية، فبدل أن نقوم بعملية التقارب، نحرض على توسيع الخلاف، ولا نعرضها كتضاربات بين طرفين سياسيين كورديين أو كوردستانيين، أو بين صحيح ومخطئ يتوجب علينا إنقاذه وإعادته إلى الدروب القويمة، بل على أنه بين كوردي وطني وخائن، ونحن من عمق مفهوم القطبين في الحركة السياسية، وعتم على الأطراف الأخرى، الأكثر استقلالية في قراراتها.
كما ومن جهة أخرى كثيرا ما نقوم بمحاربة الحركة السياسية بكليتها المحاربة أصلا من قبل الأعداء، والمسيرة بأوامر خارجية، بدل أن نقوم بمساعدتها وإنقاذها من براثن شرورها، ومن ثم تنويرها وإرشادها. فلم يعد غريبا مقولة التدمير أسهل من البناء، فهذا ما نظهره كحركة ثقافية كوردستانية، والتي ظهرت جليا في عملية الاستفتاء وقضيتي كركوك وعفرين، وقبلها في مأساة شنكال، وكوباني، وفيدرالية جنوب غربي كوردستان وحدودها الجغرافية، وقواتها العسكرية تكوينها وانتماؤها الحزبي أو الوطني أو القومي، وقضايا أخرى عديدة.
نلغي كل الاحتمالات المؤدية إلى ردم الشرخ بين الحركة السياسية، وإنقاذها من التبعية للقوى الخارجية، والقلائل منا يعمل على بناء جسور التواصل والتحاور، وتقييم الإيجابيات، أو كشف أخطاء كل الأطراف، بدون تحيز حزبي سياسي، والانطلاق من البعد القومي الوطني، وقضيتي كركوك وعفرين خير مثال، قلائل هم الذين تناولوهما بدون تحيز، والاستنتاجات لم تتجاوز الأطر الكلاسيكية المنتشرة بين المجتمع والتي في جلها ولبساطتها سكبت لصالح المتآمرين على كوردستان أكثر مما ساعدت على توعية الشعب والحراك السياسي.
ومن إحدى أهم علامات عدم توفيق الحركة الثقافية الكوردستانية حتى الأن على مستوى الأمة، إلى جانب عدم قدرتها على إيجاد نقاط تقاطع تتفق عليها أطراف الحركة السياسية، قضية الحروف الكوردية المستخدمة في أجزاء كوردستان، فنحن الشعب الوحيد في العالم لا زلنا نستخدم نوعين منها، ولم نتمكن كحركة ثقافية حل هذه المعضلة المصيرية، بل ومعالجتها تتم ببطء غريب وفي أروقة ثقافية تهمل من قبل القوى السياسية الكوردستانية، ولربما مستقبلا، كما هي الأن، ستكون من أحد أهم الإشكاليات المصيرية بين وحدة ليس فقط الحركة السياسية بل والمجتمع الكوردستاني برمته، كما واستمراريتنا على هذا الخلاف ستؤدي إلى توسيع الشرخ بين لهجاتنا وإعلامنا وبالتالي ظهور ثقافتين قد تكون متضاربتين أو في أقله غير متفقتين، وهي أحد البوابات الممكنة استخدامها من قبل الأعداء لإدامة الخلافات بيننا كحركة ثقافية وسياسية.
فما نقوم به حتى الأن، بحجة إعادة الحركة السياسية إلى الصواب، نزيد من تعمية بصيرتها، وندفع بها إلى أحضان العدو أكثر، ونعمق من الكراهية بين أبناء الشعب، وكذلك بين الأحزاب الكوردية، وهم من أبناء هذه الأمة، ولأسباب أصبحت أكثر من واضحة، يسير معظمنا في الاتجاه الخطأ، أو ضمن مستنقع لا يستطيعون الخروج منه، ولا شك هناك استثناءات، وهي التي ستشكل الحركة التنويرية، لكنها حتى اللحظة غير متماسكة، ولا تزال في دوامة، وليست بتلك الكثرة والقوة لإيقاظ الأطراف الثقافية المنحازة، وردم الشرخ المرعب في الشارع الكوردي والكوردستاني. وهنا تتناسى حركتنا الثقافية أن التحرر الفكري لا يقل صعوبة من الجغرافي، بل ولربما النجاح في الأولى هي من أوائل شروط تحقيق الثانية، وهي الممهدة لتكوين الأساليب الناجحة للتحرر من إملاءات القوى الإقليمية المحتلة لكوردستان.
ستدرك الحركة الثقافية التنويرية، حينما ستلملم ذاتها في المستقبل القريب، أن من أحد أهم مهامها، إيجاد نقاط التقاطع بين أطراف الحركة السياسية، وإلقاء الضوء عليها، والتركيز على تشخيصها، ومعالجتها بالتأني، ولا نعني بهذا أنها ستتغاضى عن النقد والنقد الحاد، أو تعرية الأخطاء، وتقييم الإيجابيات. وقد لا تكون بين أطراف الحركة الثقافية بشكل عام خلافات جوهرية، لكن معالجتهم للقضية الكوردستانية على أثر الانتكاسات الأخيرة والظروف الدولية الضبابية ما بين الملائمة والمتعارضة، والقضايا السياسية العالقة بين الأحزاب، تجري بينهم حوارات على طبقات مختلفة، فكل شريحة تتناولها بتحليلات سياسية مغايرة، وبرؤى متنوعة للمستقبل، ويعالجون الأمور التكتيكية وحتى المصيرية بتحيز سياسي مسبق.
الكثير منا يتناسون أن القوى المترصدة بكوردستان، في حل إزالتنا لأي قوة كوردستانية، غير مرغوبة، أو متهمة بالخيانة أو التعامل مع الأعداء، ستخلق بديلها ولربما بعدة أوجه، وستحاول إلى خلق مشابهه ونقيضه، وقد أثبتت تجارب التاريخ قدرة السلطات الشمولية على مثل هذا الفعل في البيئة المعاشة فيها الحركتين السياسية والثقافية، وبها تمكنت من تكريس الخلافات بيننا، المؤدية بدورها على ديمومة ضحالتنا المعرفية بالعمق السياسي والدبلوماسي الدولي، والعلاقات الدولية. علينا أن ندرك أنه بإمكانهم، ونحن سائرون على توسيع خلافاتنا وتشتتنا وتكريس تبعيتنا، وتصعيدنا الصراع السياسي الداخلي، وتركيزنا على الهدم بدل البناء، أن تخلق من قنديل عدة من أمثالها، ومن السليمانية مثلها ومن هولير غيرها، والأخطر قد تعمل على إنتاجهم بمفاهيم أكثر عداوة للبعض، بحيث يكون سهلا دفعهم إلى حد الاقتتال الداخلي، فمن السهل لهم تنمية الأحزاب الإسلامية الكوردية الراديكالية الموجودة على الساحة، ونعلم فإن هذه الموجة الدينية الخطيرة في تصاعد حاد بين الكورد في الشمال والجنوب.
تحتاج الشريحة الثقافية التنويرية، إلى الجدل الحضاري والابتعاد عن الصراع البدائي في معالجة القضايا الخلافية بين الحركة الثقافية ذاتها، والأهم بين أطراف الحركة الكوردستانية السياسية، وبحكمة، وبُعد دراية، فما تنتجه حتى اللحظة، لا تخرج من إطار زيادة تعمية البصيرة، وبث مفاهيم وقناعات، تلهينا عن الخدع والمخططات المحبكة من قبل الأعداء، فتتبدى الخلافات الداخلية وكأنها من صنع بعض القيادات الكوردية السياسية، بل وحتى أن البعض من هؤلاء القياديين أصبحوا يعتقدون ذلك، فيخرجون بأوامر وبيانات من طرف، ويتم الفعل بعكسها، لذا نحتاج إلى وعي عميق، للوقوف في وجه الصراعات وبغير الأساليب الكلاسيكية القديمة، المستخدمة على مدى القرون الماضية، والمؤدية إلى الانتكاسات المتتالية، والتي فرخت منطق التخوين الداخلي، وأحيانا الدعوة إلى اقتتال الإخوة، فاستمرينا كشعب تابع مستعمر، يستغلنا الأخر كيفما يشاء.
لا شك العديد من الإخوة الكتاب، الكورد، كتبوا ولا زالوا يكتبون في معظم هذه القضايا الخلافية، إلى أن أصبحت جدلية معروفة لكل المجتمع الكوردستاني، والجميع مقتنع أن صراعاتنا تضعفنا، وتقوي الأعداء، وكثيرون كتبوا في مهام الحركة وواجباتها وكيفية تنوير الأمة وتصحيح مسيرة حراكه، والبعض تعمقوا في النقد بل والنقد الحاد دون الانزلاق إلى متاهات التهجم وتوسيع الصراع، وتسهيل الدروب للأعداء، وبدون ذكر الأسماء، فلكل منهم أهميته، ولكل فكرة يعرضونها، أو اقتراح يقدمونه، تأثيراتها، فهذه الشريحة من الكتاب والمثقفين الكورد، رغم الظروف القاسية، يملكون الإمكانيات الكافية لتكوين حركة تنويرية كالتي أنقذت شعوبها، فقط خطوات أن لم تكن خطوة، وجل ما يحتاجون إليه، القليل من الحوارات، والاتفاق على بعض القضايا الرئيسة كبداية، ومعها القليل من الحكمة، والجرأة، والصمود بعدم الانجرار إلى الخلافات السياسية المفتعلة خارجيا.
المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر الموقع
التعليقات مغلقة.