محمود عباس: مصداقية الباحث العربي محمد جمال باروت مثالاً الجزء “التاسع عشر”..
قراءة في كتابه: التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية.
التعتيم على الشيخ سعيد بيران قائد ثورة 1925م الكوردية، وإحلال صاحب رسائل النور بديع الزمان الكوردي الشيخ سعيد النورسي مكانه، وتنسيب ثورة بيران إلى النورسي، وغايته منها؟
تعرض التاريخي الكوردي لموجات من التشوية، والفبركة، والغزو الفكري، وبشكل ممنهج، والكتاب الذي نتناوله، يتوضح بأنه تم من أجل هذه الغاية، والحدث الذي نأتي على ذكره هنا، خير مثال عن التحريفات التي طالت تاريخ الثورات الكوردية، والتي يقوم بها الكاتب المعنون، عضو المركز العربي للأبحاث التابع لدولة قطر، ويمكن اعتبار هذا التبديل من أحد أبشع المغالطات والأخطاء التي سقط فيها الكاتب محمد جمال باروت في كتابه، فعملية تقديمه لتاريخ ثورة الشيخ سعيد البيراني(1876م-1925م)، وإحلال العالم المسلم الكوردي، أبن عشيرة أسباريت، الشيخ سعيد عبد الله النورسي(1877م-1960م) كقائد للثورة، وتسمية ثورة بالو بـ (ثورة النورسي)! يدرج في خانة التزوير، فلا أظنه يجهل موقع وأسم قائد هذه الثورة.
كنا سنغض الطرف عنها، لو كان قد أخطأ في التسمية، وترأى لنا بأنه سقط فيها سهوا، أو اختلطت معه الأحداث لأنهما كورديان، أو لأنهما تزامنا في مرحلة ما إلى عام 1925م، أو لو كانت على خلفية الضحالة في المعلومات، وغير مقصودة. لكن تكراره للمغالطة وعلى طول صفحات الكتاب، المليء بما هب ودب من المعلومات عن الكورد وتاريخهم، يحضنا على عدم التساهل عن هذا التلاعب المتعمد، وغيرها من الخدع المماثلة، ويجب أن يحاسب عليها، لأنها تفصح عن غاية ما خلفها، والتي تتصاعد إلى احتمالية القاصد فيه، لتشويه الثورة، خاصة عندما يغلفها بفبركة تاريخية كالعديد من الحوادث التي أفتعلها ضمن كتابه، وإحائه للكثير من كتب المؤرخين المعادين للكورد والمفبركين لتاريخهم. ولا نستبعد بأنه أفتعلها ليصبح التحريف مصدر وسند لكتاب لا حقين.
لا يمكن لهذا الفرية التاريخية المتعمدة أن تمر، والتي لم يسبق أن فعلها مؤرخ أو كاتب قبله، خاصة وأنه يعرض نفسه كباحث في القضية الكوردية، والشعب الكوردي وتاريخهم، فمن غير المعقول والمقبول ألا يفرق بين إحدى أكبر الثورات في التاريخ الكوردي المعاصر وزعيمها الشيخ سعيد بيران، وبين الشيخ سعيد النورسي صاحب المذهب الصوفي المعروف على طول وعرض تركيا.
فإلغاء الشخصية الوطنية الثورية المعروفة على مستوى كوردستان، والذي لا يمكن لمؤرخ أن يخطأ فيه، وبتلك الطريقة وعلى مدار الكتاب، يضع كلية بحثه وذاته أمام مسائلة ثقافية وأخلاقية. كما وأن تبديله بشخصية دينية كوردية، قضى جله حياته كمرشد صوفي النزعة ينشر مفاهيمه وتأويلاته في الإسلام، ومعروف بحكمه وكتاباته التي سميت بـ (رسائل النور) والتي لا علاقة لها وله بالثورة القومية، حتى ولو كان قد برزا معاً في بداية العشرينات من القرن الماضي على الساحة التركية عامة.
والغريب أن الكاتب يعرض اسم سعيد النورسي، بدلاً من الشيخ سعيد بيران، ضمن حقل خاص من الفصل الرابع، الجزء الخامس، القسم الأول، بعنوان (1-ثورات وهجرات: ثورة النورسي) ما بين الصفحات(245-247) أثناء البحث في تاريخ الثورة الكوردية المعروفة في بالو عام 1925م، والمناهضة للحركة القومية الكمالية. وهو بذاته يستند على هذه الثورة وخلفياتها عند عرض موضوع الهجرات الكوردية الأولى، كما يسميها، ويسقط عليها نظرية الهجرة وصفاتها، الداخلية والخارجية، وفي هذا التعمق عن الهجرات الكوردية، كما يدعي بأنها ظهرت على خلفية هذه الثورة، عندما يقول في السطر الأول من هذا الجزء: “تعود أصول هذه الهجرات إلى عام 1925 حين قامت السلطات التركية على خلفية إخماد ثورة النورسي في عام 1925 واندلاع الثورة في جبال “آغري-آرارات” خلال الأعوام 1926-1930″، كان يجب أن ينتبه إلى هذه المغالطة، لولا أنه ورائها هدف، وهي إخضاع المسيرة التاريخية للفكرة التي يود فرضها حسب الأجندات التي كلف بها منذ البعث وحتى غايات دولة قطر.
ومن ناحية أخرى، فلو أبعدنا عنه التعمد، ومحاولة تشويه الثورة، فسيبقى ضمن خانة الفبركة التاريخية، لأنه لربما قد وقع في هذا الخطأ أو المغالطة لسببين: العشوائية في تجميع المراجع والمصادر، ولم يتبعه بتمحيص، أو تدقيق. أو ونعود ثانية إلى الاحتمال الأول، فعلها عن تخطيط لتشويه التاريخ الكوردي، كأسلوب للتعتيم على دور زعماء الثورات الكوردية. والغريب أنه يعرض أهم مجريات الثورة وبأمانة.
ورغم كل الاحتمالات فيبقى التيه بين الشخصيتين المعروفتين على سوية التاريخ التركي والكوردستاني والعربي، غير مقبولة. فالشيخ سعيد بيران قائد ثورة بيران والمعروفة باسمه الثورة، والذي أعدمه الكماليون في (آمد) عالم 1925م بعد فشلها. والشيخ سعيد نورالدين النورسي، مؤسس الطريقة النورسية الصوفية، المعروفة في عموم تركيا، وصاحب الرسائل المشهورة بـ( رسائل النور) والذي لم يكن له علاقة مع الثورة، بل رفض الانضمام إليها عندما استدعاه الشيخ سعيد بيران، ورد عليه برسالته الدينية المعروفة، «إن ما تقومون به من ثورة تدفع الأخ لقتل أخيه ولا تحقق أية نتيجة فالأمة التركية قد رفعت راية الإسلام وضحّت في سبيل دينها مئات الألوف بل الملايين من الشهداء فضلاً عن تربيتها ملايين الأولياء لذا لا يُستل السيف على أحفاد الأمة البطلة المضحية للإسلام الأمة التركية وأنا أيضًا لا أستلُّه عليهم.» المتوفي في عام 1960م، أي بعد إعدام قائد ثورة بيران بخمسة وثلاثين سنة، ودفن في مدينة الرها، ولصيته وتأثيره على المجتمع التركي عامة قامت الحكومة التركية، في عهد رئيس الوزراء علي عدنان مندرس، بانتشال جثته من مقبرة المدينة، وألقيت بها سرا في البحر للتعتيم على مفاهيمه المعادية للمفاهيم الكمالية العلمانية، ولئلا يصبح مرقده مزاراً لأتباعه ومريديه الذين لا يزالون بالملايين في عموم تركيا.
• الاختلاف واسع بين الشخصيتين، توجههما؛ والأحداث التي جرت معهما، ومسيرتهما النضالية، مع ذلك يستمر الكاتب محمد جمال باروت في خطأه الفاضح، ومغالطته، بتنسيب ثورة الشيخ سعيد البيراني إلى النورسي، وبعد تسمية قسم كامل، يكررها في الصفحة (287) وباستنساخ نفس المعلومات السابقة، أثناء الاستمرار في قضية الهجرة الكوردية، وفشل الثورات الكرودية في شمال كوردستان، وتحت التسمية الغريبة التي أطلقها على الجزء الثامن من الفصل الرابع -القسم الثاني، “أكراد الدواخل وأكراد الأطراف” يقول ” وبين عامي 1925 و1938 خاض الأكراد سبع عشرة ثورة، قامت بها العشائر الكوردية ضد الدولة الكوردية، بدأت بثورة النورسي في عام 1925، وانتهت بإخماد ثورة سيد رضا في عام 1938-درسيم” ويوثق هذه المغالطة بهامش رقم(227) (ثلجي، ص 97) وهذا تأكيد آخر على أنه يفبرك حتى المصادر، أو أن المصادر بحد ذاتها مفبركة أو خاطئة .
• كما ويعود إلى نفس الإشكالية في الصفحة(705) ويكرر الخطأ ذاته؛ وهذه المرة عندما يتحدث عن حملة النائب الكوردي (أحمد جعفر الشيخ إسماعيل) عن منطقة عفرين. وهنا يتوضح أكثر، تلاعب الكاتب محمد جمال باروت، وأن عرضه مقصود، من خلال الهامش(127) للصفحة(354) عندما أسندها بمصادر مطعونة فيها أو مفبركة، ليخلط بين الشخصيتين، أو بالأحرى بين الثورة والحركة الدينية، فعرض السند والمصدر، ليبني عليه تلاعبه، ومثل هذه العملية تكررت كثيرا في هوامش واستنادات مواضيع أخرى، وهنا تتبين بأن الكثير من مصادره غير موثوقة، والاسنادات ملفقه، ففي هذا الهامش يقول: ” قامت السلطات التركية بعد إخماد ثورة سعيد النورسي في عام 1925 بنفي وجهاء عائلتي قدور بك ونظام الدين إلى الأناضول …” ويلحقها باسم المصدر والصفحات والتفاصيل! ويقول انظر: et, 301-300,pp..,، ويتمم حيثياته.
ووجه الغرابة هنا، هل فعلاً لم ينتبه إلى التضارب بين المعلومات الواردة في المصادر والحقيقة، أم أن المغالطات تدعم تحريفاته. أو لم يسمع أو يقرأ بهيمنة العالم الإسلامي الصوفي سعيد النورسي على الحياة الدينية والاجتماعية في عموم تركيا، والذي سيطر على شريحة هائلة من المجتمعين الديني التركي والكوردي، وانتشر اسمه بدءً من الثلاثينيات، وركزت عليه الإعلام التركي على مدى عقود، وطغى صيته وحركة مريديه، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي في طول وعرض تركيا، ولا تزال طائفته واتباعه أهم شريحة سنية صوفية مهيمنة في تركيا حتى اليوم، ومؤيديه بدعوته شكلوا خطراً كبيراً على البنية الكمالية العلمانية، ودورهم كان ولايزال قويا ضمن الأحزاب الإسلامية من الرفاه إلى العدالة والتنمية.
ومن جهة أخرى، فهذا الخطأ أو التلاعب تبين للقارئ، بأنه هناك حشو بدون مسؤولية علمية ضمن دفتي الكتاب، وأثبات عليه، بعض الأخطاء المطبعية، والمتكررة، كعرض أسم الحرب العالمية الثانية مرادف لتاريخ الأولى(1914م-1918م) عدة مرات، وغيرها، وهي تعكس مدى العشوائية في جمع الأرشيف، والاستناد على الأحاديث العابرة أو المراجع الضحلة، على حساب التركيز على غاية الكتاب، وهي كما ذكرنا سابقاً، الطعن في كوردستانية جنوب غربي كوردستان، تاريخيا وديمغرافيا…
يتبع…
التعليقات مغلقة.