محمود عباس: مصداقية الباحث العربي محمد جمال باروت مثالاً الجزء “الثامن عشر”..
قراءة في كتابه: التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية.
يركز الكاتب في عدد من صفحاته على العلاقة بين القبائل الكوردية العربية، كتبرير آخر لعرض مسوغاته حول نفي الوجود الكوردي في الجزيرة، أو سوريا الحديثة، ففي الجزء الثاني من الفصل الأول بدءً من الصفحة (282 وحتى 284) والمسمى بـ نشوء مجتمع مركب الهوية في الجزيرة، وحتى نهايته، يحاول أن يثبت للقراء بأن الوجود الكوردي حديث العهد، ومتكون على خلفية الهجرات، ويعتبرها بشكل ما خارجية إلى داخل الجغرافية السورية، ويبني عليها مقولته التالية: (نشأ عن موجات الهجرة الكوردية إلى الجزيرة مجتمع محلي مركب الهوية قومياً ولغوياً ودينياً ومذهبياً، وتألف بدرجة أساسية من الأكراد والسريان والأشوريين والأرمن، بالإضافة إلى اجتماع بدوي مترحل ونصف مترحل رعوي-زراعي كوردي وعربي كان العرب “السهبيون” في بادية الجزيرة يشكلون معظمه من الناحية الديمغرافية البحتة، بينما كان يشكل نصف الحضر الأقرب إلى النوبات القروية والمستقرات الحضرية، نسبياً، أكثره.) ويتناسى أن بفعله هذا يفصل بين الحاضر والماضي، والعلاقة بين الجغرافية والتاريخ والحضارات والفترات الزمنية التي أصبحت المنطقة سهوب تابعة لمجمعات سكنية، وهذه تعتبر من أحد أهم المواضيع الجدلية التي يدحض فيها الكاتب ذاته، لأنه يحاول اقتحام قضايا فكرية ثقافية ليسند بها رؤيته الديمغرافية والتاريخية للمنطقة، فتخرج النتيجة عكس المراد. فكل إسقاطاته التاريخية تنهار عند إعادة ماضي الغزوات، وعليه فعزله جنوب غربي كوردستان عن أصلها تظل محصورة ضمن الفبركة التاريخية الذي جاء بها لإيجاد موضع قدم للديمغرافية العربية في المنطقة، وهي ذاتها تتكرر في محاولاته للحاضر التاريخي، لذلك يحاول تغطيتها بعرض للمفاهيم المتضاربة حول هجرة الشعوب غير العربية إلى المنطقة، وهي ذاتها مطعونة فيها مثل سابقها.
فصفحاته حول تاريخ وطرق احتلال الفرنسيون لمنطقة الشيتية، وجنوب نصيبين أي قامشلو الحالية، وكيف انطلقوا إلى منطقة منقار البط للقاء باللجنة الكمالية لرسم الحدود بينهم بموجب اتفاقية انقره الأولى والثانية، وكيف أن الفرنسيين لم يتمكنوا من احتلال شمال غربي جزيرة ابن عمر، في الوقت الذي لم يحاول الفرنسيين بموجب تلك الاتفاقيتين محاولة تجاوز مدينة عين ديوار في ذاك الجزء، وفي سياق سرده التاريخي هذا لا يستند إلى أية مصادر، ولا يورد مرجعا حولها، بعكس عادته في ضخ المصادر عن حدث يتلاءم وغايته، لأن التاريخ والوقائع والمصادر لهذه الفترة تثبت الحضور الكوردي بشكل جلي في المنطقة، وتثبت غياب العنصر العربي كلياً، وهو دحض مباشر لجدليته حول الهجرة الكوردية إلى الجزيرة بعد تشكل الحدود بين سوريا (المولود الجديد) وتركيا الكمالية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، والتي تم فيها تقسيم جنوب غربي كوردستان مع ديمغرافيتها عن اصلها.
وما أورده عن تاريخ الجزيرة السورية في الأجزاء التالية، وحتى الصفحة(264) لا تتعدى سرد الأحاديث الجارية بين عامة الشعب، وبعض الأرشيف المتداول، نسخها بدون التمعن كباحث، ودون المستندات الموثقة لمجريات أحداث بعد تلك الفترة الزمنية، وغايته منها، هي ذاتها، ترسيخ التاريخ العربي في المنطقة، وزعزعة التاريخ الكوردي مقابلها. ففي هذه الأجزاء وحتى نهاية الصفحة(264) يحصر التاريخ الكوردي في الجزيرة، ضمن عائلتين أو ثلاث وعشيرتين، علما أن المنطقة كانت تسكنها وتحكمها عشائر أقوى وأوسع نفوذا من الذين ركز عليهم، وكانوا أصحاب أملاك في المنطقة وسكنة قرى ومراكز حضرية، بعضها كانت ولا تزال تمتلك وثائق رسمية حول ملكيتهم وحضورهم، تعود إلى بدايات القرن الثامن عشر الميلادي، ولهذا التلاعب غاية خبيثة، وهي الطعن المباشر في الديمغرافية الكوردية وتاريخ العشائر والعائلات الكوردية في جنوب غربي كوردستان. وهو تمهيد للجزء السابع المركز على نظرية الهجرة (ص 280-293) متلاعباً بالمستندات حول الحركة الديمغرافية الكوردية الحاصلة اضطراريا بعد الفصل الجيوسياسي بين أجزاء كوردستان، والتي يلغيها الكاتب والعديد من المؤرخين والمثقفين والسياسيين العروبيين، للتعتيم على تاريخ جنوب غربي كوردستان، وعدم اعتباره جزء مستقطع من كوردستان، ووضع تحت احتلال الدولة السورية الوليدة فرنسياً. فجميع مقارناته وعرضه للاتفاقيات الدولية حول جغرافية المنطقة يحصرها بين تركيا والعرب، دون أن يأتي على ذكر كوردستان كجغرافية تقاتلوا عليها هؤلاء عن طريق القوى العظمى حينها، وعملية حصر الصراع بين الترك والعرب بحد ذاته خطوة استباقية سياسية خبيثة هدفها عزل الديمغرافية الكوردية من الأحداث، وبالتالي إلغاء الصفة الكوردستانية بشكل مطلق عن المنطقة.
وعلى استنتاجاته التاريخية المطعونة تلك، يقدم مفاهيمه ونظريته حول الكورد في الجزيرة، في الأقسام اللاحقة من بحثه، ويحاول الطعن في وجودهم التاريخي على جغرافيتهم (جنوب غربي كوردستان) ولإتمام تلاعبه، ينتقل إلى تشويه تاريخ ومنبت ظهور الحركة الكوردية ضمن جغرافيتهم ويعرضها كهجرة سياسية خارجية، قادمة من تركيا، فهو بهذه العملية يقسم بين طرفي كوردستان جدلاً، ويفصل بين الشخصيات السياسية المنتمية إلى المدن الكوردستانية بناءً على حاضر التجزئة والاحتلال، والحكم على التاريخ والتقسيم الجيوسياسي على منطق ومفهوم العرب والترك. وفي هذه الحالة يفرض السؤال ذاته، فمادامت الجغرافية والديمغرافية عربية تركية، فلماذا يقوم كاتبنا بإقحام الديمغرافية الكوردية فيها، ولماذا يتم الحديث عن الهجرات الكوردية منها وإليها أصلا؟ بل ولماذا تم كتابة هذا الكتاب أصلاً، أم أنها محاولة لأثبات الوجود العربي والكتاب محاولة لإزالة الشكوك في ذاته وإقناع نفسه بتاريخ لا أساس له. ومادامت جنوب غربي كوردستان جغرافية سورية، وليست كوردستانية، فلماذا يحاول الطعن في قضية مفروغة منها؟ أم أن الشك المتردد عنده طوال الكتاب بحد ذاته أثبات على كوردستانيتها، ويحاول إقناع ذاته بغيرهـا، والكتاب المركز على تغيير تاريخ الديمغرافية، والتلاعب بالحضور الحضاري الكوردي، محاولة لدحض الحقائق بمفبركات عروبية مدعومة قطريا–بعثيا-تركيا.
والغريب أنه يتتبع مفهوم الهجرة، وتفاصيلها، وبعديها السياسي والجغرافي ومن حيث أنها هجرة خارجية-داخلية، قسرية أم طوعية، مبتدئا من الصفحة(282) إلى أن يوضح غايته في الفصل الرابع، وحتى الأجزاء الأخيرة، بدءً من الصفحة (293) لكن ما يعيب بحثه المستسقاة من نظريات الهجرة، النتيجة التي يعرضها، فيهدم بها بنية التحليل، فقط لإحضار الوجود العربي التاريخي، وتنسيب الجغرافية إلى القبائل العربية، بعد غياب أربعة قرون من الهيمنة العثمانية عن المنطقة، محاولا تثبيت القبائل العربية الشمالية، كالطي والجبور والعكيدات والشمر والعنزة وغيرهم، والتي تحدثنا عنهم سابقا، وهجراتهم إلى جغرافية الجزيرة السورية، وحسب المصادر التي تطعن في مقولته التالية والواردة في الصفحة (354) ” بينما كان لعبدالرحمن قوة إضافية إلى ذلك، وهي قوة عشيرة طيّ المتجذرة في الجزيرة” وفي الواقع أن هذه العشيرة مع غيرها، وحسب جميع المصادر السورية والعربية، وحتى التي يستند عليها الكاتب نفسه، لم تكن لها جذور في المنطقة ولم تنبت لها جذور، إلا بعد الثلاثينات من القرن الماضي، أي بعد البدء بالتحضر الجزئي، فلا يمكن الإتيان باسم قرية حضرية لهذه العشائر قبل الثلاثينات، ، ولم تعرف هذه القبائل ومن بينهم الطي الزراعة إلا بعد ذلك بعقد وأكثر. في الوقت الذي كان الكورد يعيشون في مدن وقرى حضرية، وبشهادة الكاتب نفسه، فيقول في الصفحة (360) “كانت عشائر الدقورية متحضرة ومستقرة، وبرز تحضرها في جانبين: الأول، تطور شكل المنزل الريفي…والثاني، هو التطور الحضري لنظام السلطة فيها من رئيس العشيرة إلى المخاتير…” وهنا يتحدث عن أحداث عام 1926م وما قبلها، مع ذلك يعود إلى قضية الوجود الديمغرافي الكوردي ويبنيها على أساس الهجرة، والمطعونة فيها، جيوبولوتيكيا، على خلفية تقسيم كوردستان، وظهور الدولة السورية، وتركيا الكمالية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية بولادات قيصرية.
وبالمقابل يصف حركة انتقال الكورد بين شمال وجنوب كوردستان بطبيعية، نتيجة سياسات قسرية، ويضع مقارنة ثمينة عندما يأتي بهجرة العرب من لواء اسكندرونه في الصفحة(285) الهامش (222) وهنا لا يعتبر هؤلاء العرب مهاجرين أتراك مثلما أعتبر البعض من السلطات السورية أثناء الاستعمار الفرنسي، أو في فترة الاحتلال العربي لجنوب غربي كوردستان بهجرة تركية إلى سوريا.
وللخروج من هذا المأزق، يقوم بعملية تقسيم جغرافي لكوردستان تتناسب وغايته، وهي المناطق التي كان يتحرك ضمنها الكورد على مر التاريخ، ومنها الجغرافية التي ضمت إلى دولة سوريا الوليدة حديثاً، فيجزأها بناءً على وجود سكة القطار الممتد ما بين برلين وبغداد والمار من كوردستان، ويعرضها كجزء من جغرافية بلاد الشام، ولا يكتفي بهذا بل ويضم إليها مناطق سرت وغازي عنتاب وماردين ومرعش ويلحقهم بأراضي سوريا التاريخية، والتي وصفتها بعض السلطات العروبية بكليكيا، معتبرا وبدون جدال سوريا بحضاراتها وشعوبها القديمة جغرافية عربية، والتحليل يجري على البعدين السوري والتركي فقط متناسيا الكورد، وهنا يعدم الوجود الجغرافي لكوردستان، ويعتبر الكورد في الحالتين دخلاء إلى جغرافية غريبة، وهي الجغرافية العربية التركية، حسب مفهومه…
يتبع…
التعليقات مغلقة.