قضت القبائل العربية، بعد ظهور الإسلام بسنوات قليلة، أو المندرجة تحت رايتها، الغازية للجغرافيات المحاطة بشبه الجزيرة العربية، ليس فقط على الإمبراطوريات العسكرية المجاورة، بل على حضاراتها ومعالمها الثقافية والعمرانية، وجعلتها يبابا إلى درجة لم تقم لها قائمة حتى يومنا الحاضر، ولم يظهر من لدنهم بديلا يجاري العلماء والأدباء والفلاسفة الذين تم إزالة أسمائهم وإنتاجهم، وحجموا على النبوغ الفكري في المنطقة، والظاهر فيما بعد كطفرات، كان على خلفية البقية الباقية من الركيزة الحضارية في ذاكرة مجتمعاتها وثقافتهم، بينهم من أعادوا الحياة لبعض المراكز الثقافية الساسانية، قبل أن تدمر ثانية وتقام مكانهم مجالس للفقه الإسلامي، وفيما بعد حركة للترجمة إلى اللغة العربية، في المرحلة التي بدأت تنتقل فيها تلك القبائل، بعد تكوين الدولة، من مرحلة الحفظ إلى النسخ والكتابة الرسمية.
فالقبائل العربية الغازية لم تكن تعرف ولم تعترف إلا بعد قرنٍ أو أكثر من الزمن بالتدوين، وكانوا يبتذلون النسخ، واستمروا على إدارة المنطقة بالعرف القبلي على خلفية أثار الإدارات الناجية من الحضارات المدمرة، كالمراسلات، والدواوين، والعملة، وبناءً على قول (الذهبي) فإن تدوين العلوم بدأ في الإسلام سنة 143هـ، وتركزت في المراحل الأولى على الفقه، والتفسير، وسيرة الرسول، فقبل هذا التاريخ كان الأئمة يتكلمون من حفظهم.
ويكاد يكون جميع العلماء والمفكرون الذين أبدعوا بعد قرابة مئتي سنة من الظلمات، بعد الهجرة، من أصول غير عربية، بل وحتى في المراحل المتأخرة المتشكلة فيها، كما يقال، الأمة الإسلامية، رغم إمبراطوريتها المترامية، علما أن مصطلح الأمة الإسلامية بحد ذاتها مطعونة فيها، فيقول ابن خلدون، كما ورد في الويكيبيديا عن العصر الذهبي للإسلام ” كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر وأن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية وبعد عنها العرب وعن سوقها والحضر لذلك العهد هم العجم أو من هم معناهم من الموالي وأهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم… وكلهم عجم في أنسابهم وإنما ربوا في اللسان العربي”. وفي الصفحة ذاتها، يتم الحديث عن دور شعوب المنطقة، من المسيحيين، في إحياء العلوم في زمن المأمون ” لقد ترجم المسيحيون من اليونانية والسريانية والفارسية، واستفادوا من المدارس التي ازدهرت فيها العلوم قبل الدولة العربية خصوصا مدارس مدن (الرها ونصيبين وجند يسابور وإنطاكية والإسكندرية”. وعلينا ألا ننسى أن معظم مفكري وعلماء ذلك العصر كانوا من المسيحيين واليهود والزرادشتيين والمانويين والمزدكيين، الذي أسلموا حديثا.
وبروز مجموعة من العلماء في العالم الإسلامي المترامي، على مخلفات الحضارات المدمرة، لم يكن كافيا لإقامة حضارة أو إعادة السابقة إلى الحياة، وعلى الأغلب لو حافظ قادة الغزوات على المراكز الحضارية، وسمحت لها العمل بما كانت عليه، رغم العبث الذي حل بالإدارات العسكرية والاجتماعية والاقتصادية، لما زالت الحضارة عن المنطقة، ولتم إنقاذ الكثير من المأثر العلمية والفلسفية الماضية، ولكنا اليوم نقرأ لفلاسفة وأدباء لا يقلون مكانة عن فلاسفة اليونانيين والرومان والهنود والصينيين، ولظهر العديد من أمثال الفارابي، ويعقوب بن إسحاق، وأبو بكر الرازي، والبيروني، والعشرات من أمثال أبن سينا، وأبن رشد، ولكان هناك مبدعين كثر من أمثال ابن خلكان، والأصفهاني، وزرياب.
وللأسف، منعت القبائل العربية الجاهلة وقادة الجيوش الإسلامية، تدريس العلوم، والفلسفة بكل أنواعها، على مدى قرابة قرن ونيف من الزمن، وما سمح له في نهايات الخلافة الأموية وبدايات العباسية لم تتعدى دراسات في الفقه الإسلامي، والقرآن والشعر العربي، وأهملت العلوم، ولم تعيد عافيتها إلا في عهد الخليفة المأمون ابن هارون الرشيد، بتأثير من البرامكة، ولم يظهر في العالم الإسلامي، أو لنقل العربي، رياضيا، أو فلكيا، أو فيلسوفا، إلى أن تشربت سلطاتهم اللاحقة بعض المفاهيم الحضارية، بعد اختلاطهم بالعلماء وكتاب الشعوب المحتلة، مع ذلك لم تتخلص السلطات من مخلفات الماضي، فكان مصير جل من برزوا على الساحة من العلماء والمفكرين القتل والحرق، والسجون، وطرق التنكيل بهؤلاء لم يختلف كثيرا عن طرق تعامل أسلافهم، باستثناء أن كمية من نتاج العلماء في العصر الإسلامي نجت من التلف والإهمال في الفترة التي بدأت فيها النسخ بالعربية، أما الماضي كانت بالساسانية، المعتبرة لغة الزنادقة.
ظلت مستمرة التناقضات الخفية بين المرتكزات الحضارية ومعالمها والثقافة القبيلة الجاهلة، ولم تشذب بشكل ملموس رغم تعاقب الأجيال والاحتكاك بالعالم الحضاري، فالبيئة المحاطة بالسلطة وبالخلفاء بقيت قبلية رعناء في أغلبيتها، وهي نفسها المهيمنة في عصرنا هذا، والمؤدية إلى المجازر المتتالية، والمسببة في عدم ظهور حضارة على مدى أربعة عشر قرنا. فلم تزول التناقضات والتضاربات بينهما رغم ظهور الدولة، وبعض المؤسسات الثقافية، جلها الدينية-الفقهية، والترجمة بعد القرن الثاني من الهجرة، وما يقال عن الحضارة الإسلامية ليس بأكثر من خداع لمدارك الشعوب المحتلة في المنطقة، التي لم تنقطع الحضارات عن جغرافيتهم وعلى مدى أربعة ألاف سنة وأكثر إلى أن سادت القبائل العربية الجاهلة، ومن الخطأ إضفاء الصفة الحضارية على الإمبراطورية الإسلامية، الفكرة التي روجت مقارنة بعصر الظلمات المخيم على أوروبا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، ولهذا نرى أن معظم الذين يتحدثون عن الحضارة الإسلامية يركزون على هذين القرنين، متناسين أن تلك الأفضلية لم ترقى بالعالم الإسلامي إلى تشكيل أمة أو دولة حضارية. كتب في هذا العديد من المفكرين والمؤرخين، بينهم العرب، والبعض منهم الذين يروجون لوجود حضارة إسلامية، يضعون مفهوم التوحيد كأحد أركان الحضارة، ويقدمونها على كل العلوم، وإن كانت، فهم يتناسون أن فكرة التوحيد الإلهي قادمة من الديانات السابقة للإسلام بقرون، وأهمها الديانة الأزداهية، والزرادشتية، والمانوية، والمزدكية، فلا فضل للديانات السماوية وبينهم الإسلام على خلق هذا المفهوم الروحاني التوحيدي.
وفي الواقع، الأمية لم تكن هي الإشكالية عند القبائل العربية، فقد كان للبعض من قادتهم كقادة قريش اتصال بالعالم الحضاري، إلى جانب ذلك كان هناك نبضات من الفكر الفلسفي عن طريق اليهود والأحناف المنتشرين في شبه الجزيرة العربية ، والإدارة الساسانية لبعض المناطق المحاطة بها، لكن هذه لم تشكل ثقلا أثناء الغزوات الإسلامية المعتمدة بشكل رئيس على القبائل الغارقة في الجهالة والعصية على الثقافة والتحضر، وكانوا يمتعضون ليس فقط من القيم والثقافة الحضارية، بل أغلبيتهم كانوا يجهلون مفاهيم الدين الجديد، الرافض من جهة الفكر والعلوم الإنسانية، والمطالب بتحصيل العلم في جهة أخرى، وبعد تشكيل الدولة ظهر الصراع على نوعية العلوم، والتي حصرت ضمن الفقه الإسلامي، وعلوم القرآن لقرنين من الزمن، قبل أن تحظى العلوم الأخرى بالقبول.
علما أن معارفهم الإسلامية لم تكن كافية أو دون سوية الرسالة، والتمييز بين نشر الرسالة ومفاهيمها كما روج له في التاريخ، وبين طموحهم في الحصول على منافع ذاتية، أو سبية، كانت، ولا تزال، محور جدال واسع، مشكوكة في أمر الأولى، رغم انتشارها على مر القرون، وبينهم أغلبية قادة الغزوات، أو الذين حكموا الأمصار. وباستقراء التاريخ نجد أن أكثر من 90% من القبائل الغازية كانت إما حديثة العهد بالإسلام، فلم تكن قد مرت على ترك أديانها القديمة، واعتناق الدين الجديد، أكثر من سنوات قليلة، أو أنها لم تكمن مسلمة، تغزي من أجل المكاسب، والسبايا، ولكن التاريخ اللاحق وما تلا عهد الخلافات، أضفي على كل من غزى، جنودا وقادة، وبشكل جمعي القدسية، وتم مع مرور الزمن تزوير التاريخ وتحريفه، وتنزيه الخلفاء وقادة الغزوات عن الأخطاء والمعاصي، وجردوهم من تهمة تدمير المكاتب والمراكز العلمية المذكورة سابقا، أو حملاتهم المتكررة بالقضاء على التاريخ الأدبي والفكري لشعوب تلك المناطق، بل وثقافة تلك الحضارات، ومن حينها بدأت تتفاقم (إشكاليات التاريخ) في المنطقة…
يتبع…
التعليقات مغلقة.