المجلس الوطني الكوردي في سوريا

مصداقية الباحث العربي محمد جمال باروت مثالاً الجزء “السابع عشر”..

156

 

قراءة في كتابه: التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية.
التناقضات والفبركات التاريخية في الفصل الأول عديدة، برزت في عدة إشكاليات، وكنا قد أتينا على ذكر بعضها في الحلقات السابقة، وهنا سنزيل النقاب عن واحدة أخرى، والتي يسوقها الكاتب لخلق حلقة وصل بين قديم الجزيرة وحديثها: محاولاً إيجاد موقع للوجود العربي بفبركة تاريخية لهجرة عشيرة الطي الحديثة مع العشائر العربية الأخرى إلى الجزيرة العليا أي شمال الفرات الأوسط، على أنها تمت سابقاً وعلى مرحلتين: واحدة ما قبل الإسلام، بدون اسنادات تاريخية، أو وثائق ومصادر تثبت هذه الهجرة، فلا ذكر لها في كتابات الطبري وابن الأثير والمسعودي وغيرهم من المؤرخين المسلمين. فمن المعروف أن عشيرة الطي من العشائر اليمانية من مملكة سبأ وهجرت إلى منطقة حائل والتي تعتبر موطنها قبل وبعد الإسلام، وحتى عندما تم سبي أبنة حاتم الطائي وقصتها المشهورة مع الرسول، كانت قد سبيت من منطقة توران، تقع في منطقة حائل شمال شبه الجزيرة العربية أي (المملكة العربية السعودية حاليا) وهي عشيرة كانت طوال تاريخها رحل تعيش على رعي الأغنام، أي قصيرة المسافات، ولم تعرف الحضر طوال تاريخها حسب رأي معظم المؤرخين العرب، ويقول في هذا الباحث في النقوش الثمودية تركي المحيفر “لا يوجد أي وجود حضاري ملموس للطائيين في المنطقة، مبيناً أن المنطقة فقيرة بالوجود الحضاري”.
والثانية، في المرحلة الحديثة، والتي لا ذكر لها ضمن الأحداث التي جرت في المنطقة طوال القرون الماضية حتى ظهور الاستعمار الفرنسي، ولم تكن للعشيرة حراك قبل الاستعمار الفرنسي، وهي واضحة من خلال ما يعرضه الكاتب ذاته من أحداث عن المنطقة، والصراعات العشائرية. فما بين هيمنة عشيرة الشمر التي كانت تنحصر بين العقود التي هجروا فيها من شمال الجزيرة العربية، منطقتهم حائل، المجاورة لمنطقة عشيرة الطي، بعد فشلهم في تكوين مملكتهم، وحتى نهايات القرن الثامن عشر، لم تكن لعشيرة الطي أي ظهور على الساحة السياسية ولا في الصراعات العشائرية ضمن الجزيرة، فيبرزها الباحث بشكل مفاجئ، ويعود بها إلى ماضيين، القديم والحديث كما ذكرنا سابقاً، فيقول في الصفحة(121) (وانفردت وفق القصة الشهيرة بفك الاشتباك بين الشمر الزاحفة وطي القائمة في الجزيرة منذ قرون…) ويفبرك هنا تاريخا حول نشاط العشيرة الزراعي وعلاقاتهم مع أعيان نصيبين، من بينهم قائمقامها (قدور بك) ومن المعروف أن السيد قدور بك كان قائمقام نصيبين في نهاية العشرينات من القرن التاسع عشر، والباحث ينقب عن قضايا تاريخية تعود إلى القرون السابقة، وفي الواقع لم يكن لهم وجود في نصيبين فقط كان رئيس عشيرتهم عبدالرحمن منفيا إليها ودون عائلته من قبل الفرنسيين لسنتين أو أقل، وفي نفس الفترة أي في بدايات العشرينات كانت قبيلته بل وجميع القبائل العربية في بدايات ظهورها في المنطقة وكانوا في حالة رحل ولم يستقر أي منهم، يعيشون على الرعي.
ينتهي الكاتب من الفصل الأول دون أن يبلغ غايته، ولذلك ينتقل إلى حاضر الجزيرة، معتبراً أن ما عرضه من التاريخ القديم حول الجزيرة دمغة تاريخية للقبائل العربية الشمالية، لا جدال عليها، وكأنها معادلة رياضية جمع فيها بعض القبائل العربية الشمالية مع جغرافية الجزيرة ليخرج بالنتيجة التي يرغبها، فختم المنطقة بالختم العربي، وينتقل بعدها إلى حاضر الجزيرة (جنوب غربي كوردستان) ليبني عليها سياسة البعث والأسدين وغاية العروبيين العنصريين.
وفي الواقع خرجت تلك القبائل من تاريخ المنطقة لحظة انتهاء الفصل الأول من الكتاب، فكل وثائقه إما مفبركة أو غير مسنودة، أو أنها تبين عكس ما يطمح إليه، وجميع الوثائق التاريخية تنفي الوجود العربي في الجزيرة الفراتية حتى بدايات القرن الثالث ما بعد غزوات القبائل العربية الإسلامية الجاهلة، وقد أوردنا بما فيه الكفاية من المصادر لتوثيق هذه الحقيقة. وجميعها تؤكد بأنه لم يكن لهم وجود سوى كقبائل رحل، كما ذكرنا سابقاً، ظهروا على أطراف بادية الشام، وجنوب الجزيرة العربية، ودخلوها في البداية تحت غطاء الإسلام والغزوات، وثانياً بعد انزياح الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية، وتمددت القبائل العربية الرحل في مناطق الكلأ واتبعت الغزوات الإسلامية لتصل أحيانا مرابع الجزيرة العليا، وفيما بعد، ظهرت بعضها كقبائل مهاجرة قادمة من عمق الجزيرة العربية، وبينهم شرائح من القبائل القحطانية أي عرب العاربة، باستثناء قبيلة شمر، القادمة من شمال الجزيرة العربية، وفي هذه العشيرة تاريخ متنوع حول أصولها، ومنابعها، هل هي قحطانية أم عدنانية، شمالية أم جنوبية؟ وهي وعلى مر القرون الماضية تعتبر أفضل القبائل العربية التي تلاءمت والقبائل الكوردية، بعد صراع غير قصير مع العشائر الملية الكوردية في بدايات القرن التاسع عشر على سيادة أطراف من جنوب الجزيرة.
يستمر الكاتب في هذا الصياغ الاعتباطي، فيتحدث في الصفحة (161-162) عن احتلال الفرنسيين في تاريخ 5 آب عام 1926م لجزءً من القامشلي متناسيا أنها لم تكن مبنية حينها، وهو الأعلم بفترة بنائها، وتوسعها، وأن الفرنسيين طردوا من المنطقة الكوردية بعد معركتين مهمتين في تاريخ المنطقة، (بياندور ودياري توبي) وهي نفس السنة التي بنى فيها الفرنسيون معسكرهم بعد ثلاث سنوات من تاريخ المعركتين. وقد ذكر بعض الأشخاص المرافقين للأغا سليمان عباس رئيس عشيرة دوركا والذي رضخ لدعوة الجنرال بيوت الفرنسي في عام 1926م لخلق هدنة بينهم: بأن الجنرال استقبله مع بعض زعماء العشائر الكوردية الأخرى تحت خيمة عسكرية، ولم تكن هناك ثكنة مبنية بعد في المكان الذي نهضت عليها مدينة قامشلو لاحقاً، وأضافوا أن الجنرال خرج وبعد حوار، وبرفقة شخصيات فرنسية مدنية، والأغا سليمان عباس، إلى منطقة في جنوب الخيمة بمسافة، وحددوا أرض خالية قدمها له كفدية لدم ابن أخيه عباس محمد عباس الذي أعدمه الفرنسيون في بياندور في عام 1923م، ذاكرا له بأنها ستكون من ضمن المدينة التي يخططون لإقامتها هنا، والأرض هي نفسها المنطقة التي عليها السوق (العرصة) القديم حالياً.
والغاية من ذكر هذا الحدث، للتأكيد على أن العشائر الكوردية، المنتشرة من ديركا حمكو ومروراً بأليان والشيتية وإلى العشائر المعروفة حتى الحسكة جنوباً وجبل عبد العزيز، وغرباً إلى عامودا ودرباسيه وسري كانية وحتى كوباني، هي التي كانت حاضرة في الجزيرة، وكانت لهم قرى ومدن في الوقت الذي كانت فيها القبائل العربية لا تزال تعيش حالة الرحل وتجوب المنطقة ما بين البادية والجزيرة الفراتية، ولذلك فالفرنسيين كانوا يتعاملون مع الحضر الكوردي كأصحاب للمنطقة، حتى وعندما تصاعدت نفوذ بعض رؤساء القبائل العربية، كشيوخ الشمر والطي والجبور، لكنهم لم يعاملوا إلا بعد الثلاثينات كأطراف من أصحاب المنطقة…

يتبع…

التعليقات مغلقة.