محمود عباس: مصداقية الباحث العربي محمد جمال باروت مثالاً الجزء “السادس عشر”..
9-جاهد الكاتب في تجميع مواضيعه، لكنه أسقطهم ليس كبحث تاريخي-علمي نزيه، بل لغاية سياسية عنصرية، وظهرت هذه جليا عندما أقتطع مراحل زمنية عديدة ما بين الغزوات حيث بروز جدلية ديار بكر وربيعة ومضر والقرن الثامن عشر أي نهايات السلطنة العثمانية، والتركيز على هذه المرحلة الأخيرة بعرض بعض الحركات الديمغرافية المفاجئة، التي ظهرت في المنطقة وفي جنوب غربي كوردستان تحديدا، على خلفية الصراعات السياسية بين القبائل العربية، وتمثلت بهجرة بعضها من أماكنها في شمال شبه الجزيرة العربية إلى جنوب وجنوب غربي كوردستان وخاصة ما تسمى بالجزيرة الفراتية، فبدءاً من الصفحة (57) وحتى الصفحة (62) يركز على هجرات الشمر والطي والجبور والعكيدات إلى جنوب سوريا ودخولهم الجزيرة الفراتية كرحل، منتقلا وبسرعة ليركز على مرحلة نشوء سوريا بيد الفرنسيين ليبدأ القسم الثاني من كتابه وهي مرحلة الانتداب الفرنسي وعنونها بـ “تاريخ الهجرات والإعمار ونشوء الجزيرة السورية الحديثة)، ومن خلال العنوان يمكن ملاحظة ما يصبوا إليه، منها: إنكار وحدة الوجود الكوردي جغرافيا وديمغرافيا في جنوب غربي كوردستان، وتناسي أن المنطقة كانت ولاية واحدة مركزها كانت مدينة ماردين، كما ويضم سلفا الجزيرة الفراتية إلى جغرافية سورية الوليدة ويعتبر الكورد وافدون إليها، ويدرج وجودهم ضمن جدلية الهجرات الخارجية، وهنا بالضبط تكمن أحد أهم معضلات الكتاب الذي تم على خلفيته التأليف. علماً أنه لم يتمكن من تجاوز الحضور الديمغرافي الحضري الكوردي خلال القرون السابقة بدءً من الهيمنة العثمانية وحتى فترة انهيارها، ابتداءً من الصفحة (85) والتي تصاعدت معه من الصفحة (99 حتى 124). وبالمناسبة فهناك أسئلة تفرض ذاتها: هل سوريا عربية أصلاً؟ ومتى أصبحت عربية؟ أم أنها محتلة أو مستعمرة من قبل سلطات عروبية؟ أليست الديمغرافية العربية في سوريا مهاجرة؟ أليست الشعوب السورية الأصلية تعربت تحت غطائي اللغة والإسلام؟ هل الخط الحدودي بين سوريا وتركيا الوليدتين قسريا كان الخط الفاصل بين الوجود الكوردي في سوريا الحالية وتركيا؟ ألم يكن للكورد حضورا في الجزيرة الفراتية قبل ذلك؟!
يتبين عدم نزاهته الكاتب بعد التدقيق في الاستنتاجات التي يقدمها، فيظهر بوضوح ما يطمح إليه، وهي نفس غاية حزب البعث، والعروبيين العنصريين الذين يتبناهم اليوم (دولة قطر) عن طريق (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) بعد انهيار سلطتي البعث في سوريا والعراق، فتحتضنهم للقيام بالمهمات التي لم يتممها البعث السوري وسلطتي الأسد، وتنحصر في القضاء على كوردستانية جنوب غربي كزردستان المقتطعة من أصلها، والتي ضمت إلى الدولة السورية المولودة في العشرينات من القرن المنصرم. إلى جانب ذلك فإن دراسته، رغم غزارة المعلومات، تنقصها المصداقية وغايات عرضها، والترتيب التاريخي، والذي يغيب وبتخطيط المراحل التي تبرز فيها الحضور الكوردي الديمغرافي في الجزيرة الفراتية، ويتخلله فبركة في السرد، على خلفية التعتيم على بعض الحوادث والتركيز على أخرى، واختلال الربط بين المسائل المطروحة وعرض ومصداقية المصادر، إلى جانب التكرار في القضايا، وسيرة الأشخاص، والتداخل بين النص والهوامش، فأحيانا يصبح النص هامشا والهامش نصاً، إلى أن أوصل بعدد صفحات كتابه إلى الألف، ليظهره وكأنه مرجع تاريخي-علمي مهم وشفاف للجزيرة الفراتية، ولا شك فإن التكرار في معظمه وضع عن تقصد، لتشويش وتطبيع القارئ، وبها يبلغ مبتغاه مع العديد من القراء.
وهو بطريقة معالجته لهذا الحيز التاريخي-الجغرافي-الديمغرافي، لمنطقة الجزيرة الفراتية (جنوب غربي كوردستان) يستخف بمشاعر ومفاهيم الناس، خاصة الكورد منهم، ويمهد لعرض الغاية المعروضة من أجلها الكتاب، فمن على خلفية دعمه المبطن بالشكوك لحقوقهم القومية في ثلاثة أجزاء، يطعن في حقهم بامتلاك كوردستانهم الكلي، المحتلة من قبل سوريا وتركيا والعراق وإيران، ويقتطع منها الجزء الضام إلى سوريا، والتي تظهر في الصفحة (191) عندما يركز على إلغاء جنوب غربي كزردستان كجزء من الكل، متناسياً بأنه يناقض ذاته، عندما يعرض الاتفاقيات الدولية التي جرت بين فرنسا وتركيا الكمالية حول مجريات التجزئة، وذلك باتفاقيتي أنقرة 1 و2 ، ومعتما على دور اللجان التي شاركت في ترسيم الحدود، وتتبعت فصل كوردستان بناءً على مصالح الدول المستعمرة، وتم تشكيل سوريا السياسية الحالية من العدم، ونقصد هنا كجغرافية وليس الاسم، وبحدود اعتباطية، المتفقة عليها فرنسيا وبريطانيا، وبرفض من تركيا الكمالية، إلى أن تراجعت ووافقت وبشكل رسمي في بداية الستينات عندما أعطيت صلاحيات السفارة لقنصليتها في دمشق، علماً أن تشكيل الحدود دامت بين تركيا وسوريا الجديدة عقدين من الزمن انتهت في عام 1939م، وهي دلالة على أن الجغرافية الحاضرة هي نتيجة عمليات التقسيم التي خططت لها دول سايكس بيكو وروسيا القيصرية قبل حدوث الثورة البلشفية، وكان مخاضاً صعباً همشت فيها التشكيلات الديمغرافية القومية، والمذهبية، والدينية، ليس حبا بالعرب ولا كرها بالكورد بقدر ما كانت لمصالحهم، ولذلك لم يعيروا انتباها للمكون الديمغرافي الجغرافي الكوردستاني الذي له تاريخ وحضارات، والغريب أن نسبة واسعة من النخبة المتعلمة العروبية، وقلة من مثقفيهم، وشريحة واسعة من سياسييهم يتباكون اليوم على تلك التقسيمات الجغرافية التي أجدادهم رفضوها وهم كذلك اليوم، وكأننا أمام نفاق فاضح بين الذات والضمير.
ورغم أن الكاتب يعرض أغلبية مصادره عن تاريخ جنوب غربي كوردستان في خارج سياقها المطلوب، إلا أنه يتوقف في منتصف الصفحة (41) من كتابه كالمنتصر، ليقول: (ووفق هؤلاء تألفت الجزيرة من ثلاثة ديار…) مقنعا ذاته قبل القارئ، إن الجزيرة كانت تسمى بديار بكر، وديار مضر، وديار ربيعة، ويستمر على عرض التسميات الثلاث، كأنها حقائق تاريخية موثوقة ومثبته قبل الإسلام، وحسب مصادره، التي يبترها ويطمر بعضها، والأسماء العربية – الإسلامية هذه تبينت وحسب المصادر التاريخية الإسلامية لا تتعدى الظهور بالأسماء فقط حتى منتصف الخلافة العباسية، أي في قمة الإمبراطورية الإسلامية العربية، وبعدها برزت ثانية كبعد سياسي مع ظهور الدولة العثمانية كتغطية لسلبهم المركز الإسلامي من العرب ومن قريش، وكان في عمقه انقلاب هائل على الإسلام والعروبة، لم يتجرأ على فعلها أحد قبلهم من السلاطين والممالك، منذ أن سيطر عليها قريش في سقيفة بني ساعدة، رغم أن الصفويين كانوا يحلمون بها تحت عمامة المذهب الشيعي.
لا بد وأن بعض العرب، من أبناء المنطقة سينتبهون إلى قضية جديدة يطرحها محمد جمال باروت، والتي من خلالها يحاول أن يلغي الوجود الكوردي أو يثبتهم ضمن الوجود العربي المفبرك، من خلال تحضير القبائل العربية قبل الحضر الكوردي في المنطقة في المراحل التاريخية الحديثة، وعن طريق إبراز عشائر يدعي بأنها عربية-كوردية، كعشيرة الجوالة المعروفة بأنها أحد بطون عشيرة الطي، فيعتبرها عشيرة خليطة أو من ضمن العشائر الكوردية التي تعربت، وانضمت إلى عشيرة الطي، فيقول في الصفحة (121) “وكانت عشيرة الجوالة أقرب إلى عشيرة عربية-كوردية تحت رئاسة طي عرفاً.”
لا شك وعلى مدى القرون الماضية من التداخل الديمغرافي بين الكورد والعرب بل وبين جميع شعوب المنطقة، والتغيرات المذهبية، وهيمنة الإسلام، وضعف الانتماء القومي أمام الديني، ظهرت خلط ودمج بين الشعوب، وتغيرت وعلى مراحل طويلة الانتماءات القومية ومعها اللغة، سايرتها تنقلات جغرافية، وهجرات قبائل عديدة، ضمن العالم الإسلامي. والطرح الشكي في الخلط العشائري بين الكورد والعرب لها خلفية منطقية، لكن لا تنطبق على المراحل التاريخية الحديثة، وعشيرة الجوالة، يعتبر خير مثال، لكن لا توجد وثائق ودلائل تاريخية تثبتها، مع ذلك لا يستبعد انضمام عائلات كوردية إليها، فقد تحدث الكثيرون عن وجود عائلات بين الجوالة ذوي عيون زرق، وبشرة فاتحة، بل وبينهم عائلات كاملة بشعر اصفر، وهناك عائلات تكنى بالأسماء الكوردية، والعرب خير من يتبع الأنساب، ويعلمون أنهم لا يحملون مثل هذه النسب العائلية وهذه الجينات العرقية، ورغم ذلك فالمسيرة التاريخية الطويلة والاختلاط الديمغرافية في مناطق الثغور لا بد وأنه قد تم مثل تلك الحالات، وهي موجودة بين جميع شعوب العالم، بل وقبائل كاملة غيرت انتماءاتها.
وبخلاف هذا فإن الكاتب يبين ومن خلال عرضه لتاريخ العشائر العربية في الجزيرة الفراتية، أن تاريخهم يبدأ من القرن الثامن عشر، وكانت عشيرة الشمر في مقدمة العشائر التي ظهرت في المنطقة، تلتها العنزة والعقيدات، والطي والجبور لاحقاً، وجميعهم كانوا رحل، في الوقت الذي كانت فيه المدن الكوردية تنعم بالرفاهية، والتحضر، كديريك، وعين ديوار ونصيبين وعاموده، وسري كانيه، إلى جانب قرى عديدة كانت حاضرة زعماء عشائر، كديرونا آغي، ودوكري، وحلوة وتل شعير وسيحه، وغيرها على امتداد الخط الحدودي المتشكل حديثاً ما بين ديريك وقره تشوخ وحتى الفرات.
يتبع…
التعليقات مغلقة.