محمود عباس : هل كان للكورد أدباء وفلاسفة قبل الإسلام..
د. محمود عباس
هل كان للكورد أدباء وفلاسفة قبل الإسلام
الجزء الخامس عشر
من أسباب فقدان آثارهم
معظم المدن التي كانت ضمن جغرافية كوردستان، والتي يقال بأنها اعتنقت الإسلام عن رضى وبدون إكراه، أو استسلمت بلا حروب، لاقت الأهوال، حتى ولو لم تكن تطالها السبي، وذلك لأن المدينة ومكة كانتا قد امتلأتا بالسبايا والأمة والغلمان، ولم تعد تجارتهم رابحة، بل أصبحوا عالة، لذلك كانت تفرض على سكان المدن المحتلة إتاوات عوضا عن السبي أو المجازر، وعلى رجالها إما الانخراط في الجيوش الغازية أو القتل، والتاريخ يذكر أن معظم المدن الكوردستانية تقبلوا هذه الشروط دون مقاومة، رغم معرفتهم بما كان يلحق بسابقاتها، وقد تم تدوين الكثير على صفحات التاريخ بما كان يجري من التدمير والقتل بعد استسلامها، وهي الأن في متناول المؤرخين رغم التحريف الهائل لأحداث تلك الفترة، بل وللتاريخ الإسلامي بكليته، والتغطية على بشائع القبائل العربية الجاهلة.
لا شك، أنها جدلية الصراع بين البيئات الحضارية والقبائل المحاربة القادمة من بيئات جاهلة قاحلة تعاني الفاقة والجوع الدائم والضحالة المعرفية، وتاريخ البشرية مليئة بمثلها، ورعب الشعوب الحضرية من القبائل الرعوية الغازية جدلية طاغية في التاريخ البشري، لأن الأخيرة لا تملك شيئا تخسره، بعكس الشعوب الحضرية. فالمدن الكوردستانية الموجودة ضمن جغرافية الحضارتين، الساسانية والبيزنطية، لم تكن مستثنية من هذه المعادلة، عانت المرارات كلها، اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ودينيا وفكريا، فقد دمرت فيها العوامل الحضارية والمراكز الثقافية والدينية الموجودة إلا التي خدمتهم، مع غياب أدوات المقاومة، لأنها كانت تجمعات مدنية تعيش نعيم الاستقرار والحياة الحضارية، ولم تكن فيها قوى عسكرية بقدر ما كانت فيها من المراكز الثقافية والعلمية، بل لم تكن بحاجة إلى الجيوش، إلا بعد أن ظهرت القبائل العربية الغازية فجأة، وكانت صدى المجازر التي خلفوها في المدن السابقة لهم، كالمدائن، وجنوب وشرقي الإمبراطورية الساسانية، وجنوب بيزنطة، تصلهم قبل ظهور القبائل الجاهلة على أطراف مدنهم. إلى جانب عامل داخلي كانت قد أهلك الشعب، وهو الصراع المدمر بين المزدكيين (تابعي الديانة المزدكية المنافسة للزرادشتية ديانة السلطة) والسلطات الحاكمة، والمؤدية إلى إضعاف مميت لقوة الإمبراطورية، مع كراهية للمجتمع من الوضع السياسي المعاش، ورافقتها الصراعات الفصلية بين الإمبراطوريتين المتجاورتين، البيزنطية والساسانية، كل هذه العوامل مجتمعة دفعت بالمدن الكوردستانية إلى الاستسلام، بدون مقاومة، راضخة لمنطق حكمائها وعلمائها الذين كان لهم غلبة في القرارات.
ورغم ما يقال في التاريخ أن القبائل العربية دخلت معظمها بدون حروب، إلا أن ما حصل لشعوب المدن الكوردستانية، ومراكزهم الحضارية وعلمائهم وفلاسفتهم ونتاجهم كانت كارثية، وشبه عدمية الوثائق التاريخية عن الماضي السابق لمجيئ الإسلام، المشابه لماضي اليونانيين خير دليل، وفقدانها تثبت على أن أغلبيتها دمرت وأتلفت ومقتنياتها النفيسة نهبت، وطبقت على مراكزهم قوانين البداوة والغزو، تحت منطق مفهوم الدين الجديد الذي كان أغلبية الغازيين لا يدركونها. ففي سيرة غزو بعض هذه المدن يقول أحمد بن أعتم الكوفي، في كتابه الفتوح، الجزء الأول الصفحة(249) على لسان ياقوت الحموي ” وبالرقة يومئذ جمع من الروم عظيم، فنزل عياض بن غنم قريبا من سورها، ثم بث السرايا حولها، فغنم المسلمون غنيمة حسنة. قال: وأشرفت الروم حيطان الرقة، فجعلوا يرمون بالحجارة والنشاب…” ويكمل في ذكر فتح مدينة الرها من بلاد الجزيرة ” قال: وأهل الرهاء قد بلغهم يومئذ خبر عياض بن غنم وفتح الرقة فجزعوا لذلك جزعا شديدا، وقد جمعوا الأطعمة والأشربة والعلوفة إلى مدينتهم وهم على خوف شديد من المسلمين…” وبالتالي أصبحت المجتمعات الكوردستانية بمراكزها العلمية عرضة لتراجع ثقافي- حضاري على مدى قرون لاحقة.
فالاحتماء بالدين لا يعطي لقادة الغزوات العربية الإسلامية العصمة بعدم القيام بالأعمال الكارثية، ولا المطلق الفكري أو الروحي، أو المعرفة بغايات الدين، منعتهم من عدم القيام بالمجازر وتدمير المعالم الحضارية، وأولها هدمهم للمراكز الثقافية والعلمية، تحت حجة أن القرآن يعوض عن الجميع والإسلام بغنى عن العلوم الإنسانية، وتفضيل الفقه الإسلامي على كل العلوم، بل أصبح البديل شبه الكلي ليس فقط في القرنين الأولين من الهيمنة، بل وهي لا تزال حاضرة في وعي المجتمع الإسلامي الكلي، وتبينت هذه منذ السنوات الأولى ما بعد وفاة الرسول، ففي ميثاق العهد المأخوذ على أهل السنة من النصارى واليهود في القدس ومثلها التي فرضت على جميع الأمصار والمدن كالتي بعث بها عياض بن غنم إلى أهل الرها ونصيبين، توضح خلفيات إسلام شعوب المنطقة والتدهور الحضاري بتلك السرعة، وعدم ظهور حضارة حتى الأن في العالمين العربي والإسلامي.
فقد كان معظم القادة الذين طبقوا الوثيقة الرهيبة في بنودها، مثل غيرهم من أفراد القبائل الجاهلية، أميون لا يفقهون من الحضارة شيئاً، أضفيت عليهم في المراحل اللاحقة صفات استثنائية، قدسية قريبة من الصفات الإلهية، المطلقة، وأصبحت كلمة الصحابة ملازمة للتبجيل، وصف بها جميع قادة الجيوش الغازية، علما أن أغلبهم لم يشاهدوا الرسول. فكثيرا ما يعزلونهم عن الحيز الإنساني، علما أن معارفهم لم تتجاوز معارف قادة قريش قبل الإسلام، وأخلاقهم لم تخرج من جغرافية عادات وتقاليد القبائل الجاهلة، ولم يدركوا وعلى مدى القرنين اللاحقين للإسلام مفاهيم المطلق الإلهي التي أحاطوهم بها المسلمون لاحقاً، باستثناء تبعية دون تفكير وإيمان دون فهم بالدين الجديد والروحانيات في النص القرآني، أي أن الخلفاء وجميع الصحابة وقادة الجيوش الغازية كانوا من شريحة المخلوق وليس الخالق، كانت لهم أخطاؤهم، بل وأخطاء كثيرة، نجحوا في الغزوات وفشلوا في بناء مدنية أو حضارة على أنقاض المدمرة، معظمهم ماتوا إما مسمومين أو قتلوا بيد أصحابهم أو أهلهم، والبعض منهم دفنوا في غير المقابر الإسلامية.
مع ذلك وعلى مدى القرون اللاحقة أحيوا أسماؤهم، وفبركت أفعالهم وتاريخهم، وقدسوا مع الرسالة ومفاهيمها، بغض النظر إن كانت إلهية أو بشرية، علماً أنه وحسب الفقه الإسلامي، جميعهم خارج جغرافية العصمة، فالعصمة أن وجدت فهي للأنبياء، من البعد الديني، وفي هذا خلاف، لذلك لا يمكن أن يكونوا بريئين من الدمار الذي خلفته الجيوش العربية الإسلامية لمعالم الحضارتين، وبالتالي ضياع أثار علماءهما وفلاسفتهما ومن بينهم الكورد، المشابهة لما خلفته البرابرة بالحضارة الرومانية، بل ولربما كانوا أكثر تخلفا حضارياً، وجهالتهم بالأدب والفلسفة وقيمة مقتنيات المدارس الثقافية ومكتبات مدن الحضارة الساسانية خير مثال، كالدمار الذي ألحقوه بمكتبة جنديسابور، المكتبة التابعة لأكاديميات كانت قد استقبلت في عهد ملكها أنوشروان (531-579م) مجموعة من الفلاسفة والأطباء اليونانيين الذين جاؤوا مع زوجة أنوشروان، أبنة القيصر البيزنطي أورليانوس، وبعدهم مجموعة من الذين هربوا من الإمبراطور الروماني على خلفية إغلاقه لمدرستهم الرواقية في أثينا، وقسم منهم شاركوا فلاسفة أكاديمية كنديسابور في ترجمة العديد من الكتب اليونانية، والتي لم تنجوا أية منها من الإهمال أو الحرق.
وفي الحقيقة أن معظم العلوم التي ظهرت في فترة العباسيين، وحتى الطبية منها كالتي اشتهر بها أبن سينا، كانت لها خلفيات تاريخية تعود إلى دراسات كلية الطب في أكاديمية كندي سابور أحد أهم المراكز العلمية للحضارة الساسانية، والتي عادت إلى الظهور بعد قرن من زمن التدمير، بعدما لانت ثقافة البعض من الخلفاء العرب الذين أحيطوا ببعض الوزراء من أبناء المنطقة أمثال البرامكة الكورد، فظهر بعض العلماء والفلاسفة والشعراء المتمردين على الدين، وتمت في تلك الفترة، مرحلة هيمنة الكورد البرمكيين، الاهتمام بحركة الترجمة والنسخ خاصة في عهد الخليفة المأمون، رضيع أم الفضل زوجة يحيى البرمكي الوزير الأول لهارون الرشيد والأمين والمأمون، الذي بنى بديلا عنها (دار الحكمة) في مدينة بغداد مركزاً على اللغة العربية، بعد أن تم إزالة اللغة الفهلوية الساسانية التي كانت تدرس في تلك الأكاديمية، على يد الخليفة هارون الرشيد تحت حجة القضاء على الزنادقة من الديانة المانوية والزرادشتية المزدكية، بينهم العديد من العلماء والفلاسفة، لتدمر الأكاديمية ثانية في منتصف القرن الثالث الهجري، وصعود اللغة الفهلوية الاشكانية أي الفارسية بعيدا عن بغداد بدعم من الدولة السامانية، فظهر بعدها العديد من الشعراء والفلاسفة والعلماء الذين استخدموا اللغة الفارسية في كتابة نتاجهم. رافقت هذه المدرسة مدارس أخرى في مجالات الطب والفلك والرياضيات وغيرها في مدن الحضارة الساسانية.
يتبع…
التعليقات مغلقة.