ذات مرة سألت أحد القائمين على قضية المناهج المدرسية عن عزوف غالبية الشعب لإرسال أبنائهم إلى المدارس الخاضعة لسيطرة الاتحاد الديمقراطي وإدارته الذاتية. فردّ مبتسماً إن عدد المتحررين من ذهنية النظام السوري قليلة جداً. سألته كيف تقيمون مخرجات التعليم مع غياب الأساس والأرضية والمنهجية وكل ما يتعلق بضرورة نجاح العملية التربوية، فأجاب ساخراً: سنجعل من تجربة التعليم في روج افا مثالاً يُحتذى به في دول العالم.
في منزلي، ولغياب الأماكن المشجعة على التفكير والهدوء خارج أسوار غرفتي. رحت أقلَّب كلام صديقي عن التعليم. وهل يمكن أن أختصر أسباب تفضيل أعداد ضخمة من الأهالي إرسال أبنائهم إلى مناطق بعيدة جداً عن سكناهم، أو تكبد مصاريف إضافية لتسجيلهم في مدارس خاصة، أو قبول جلوس أبنائهم على الأرض أو برفقة أربعة طلاب في طاولة تتسع لثلاثة فقط. هل تُختصر كل تلك الأسباب بذهنية غير متحررة. إن كان ذلك حقيقة، فمن المسؤول عنه بعد سيطرة وسلطة فاقت الأربع سنوات.
الانفصال لم يعد يقتصر على الحدود الجغرافية بين المناطق الكوردية خارجها وداخلها. بل أضحى الانفصال على مستوى الشعور بالانتماء إلى الواقع العيني والمعاش. لدرجة أن تكون المدارس المفعلة والنسبة القليلة للطلبة الملتزمين مع مناهجهم أضحوا جزيرة مفصولة عن باقي أبناء الشعب الكوردي بعقولهم المتحجرة والمتخلفة كما يتم وصفهم. وعِوضاً عن البحث في أسباب ابتعاد غالبية الشعب عن التعاطي مع تلك المناهج والمدارس، باتت حُجة تقاطع ذهنية المُقاطعين مع ذهنية النظام بمثابة المدماك الذي يُعتمد عليه. علماً أن اللغة الكوردية كانت إحدى الأحلام الوردية للكورد طيلة أكثر من نصف قرن مضى.
الأفكار وخطط إدارة الدولة تتولد وتُنجز وتُطبخ في المختبرات الموسومة بشعار لا للنوم، وليس في الشوارع والاعتصامات. هي ثورات التكنولوجية والعلم والحريات والتعددية وملاحقة الشعوب عبر شاشات الفضائيات لتغيير نمطية العيش الشعبي وتغيير خرائط الدول دون أن تطلب إذناً لعبور الحدود. لا شيء يقف أمام قوى التغيير العلمي. لا السلاح الكوردي ولا شعارات الإرادة الشعبية، ولا منصات استدرار عواطف الجماهير عبر بهلوانية الألفاظ المُعبرة عن حجم الحزن على فقدان شاب كوردي لحياته.
من نافلة القول، أنّ كل هذه لا يفيد الكورد للانخراط في تلك المختبرات، ولا أن يكونوا ضمن حسابات الآخر الفاعل والمؤثر الحقيقي للتوازنات الجغرافية، بل فقط انخراطهم مشروط بالتغيير. ونسف قناعات اعتبرت نهائية. وتغيير أساليبهم التي شُرحت على أنها قصر الأحلام والاستقرار، أو ليبقوا على قارعة أرصفة العالم، ويجدوا أنفسهم يبحثون عن مبررات الفشل والسقوط. فلا عتب عليهم إن لم يكتشفوا أنَّ قوة جنرالات التكنولوجية تسحق وتوفق فاعلية جنرالات الجيوش والحروب.
تدفع الإدارة الذاتية اليوم غالياً ثمن الفشل في بناء مؤسسات تستقطب الجميع، المؤيد والمعارض، خارج إطار الحاجة الوظيفية، وبعيداً عن الانجبار نحو التعاطي اللحظي مع قوانين تكبل حياته العامة. وستدفع المناطق الكوردية ثمن البقاء الطويل في ظل رجال لا يعرفون العالم ولا يعرفون كيف يَخدمون ليُخدموا.
ونسي مؤسس الإدارة الذاتية /الاتحاد الديمقراطي/ أن العالم تقدم وتغير، وأن الفجوة الإلكترونية والتكنولوجية لم تعد تسمح للجيوش والسلاح والقوة أن تمنع وتُرهب أجيالاً منهم من ولدوا ومنهم من أنهوا تحصيلهم العلمي في الحرب. وأن الأجيال الكوردية لم تعد ترغب بالالتحام، بل بالالتحاق بالركب الحضاري.
بمطلق الأحوال، أخطر ما يمكن أن يلحق بالمناطق الكوردية هو إهدار الأعمار وضياع الأجيال والبقاء خارج شلال التقدم والمكوث تحت شلالات الدماء. بعد ثمان سنوات من الحدث السوري، لا مدارس تفتح الآفاق أو تخلق القيمة العلمية ولا ثروة إنسانية بمخرجات تعليمية. إهدار وقت الشعب الكوردي عبر استمرار دوامة العنف والقلق والخوف والتوترات لا يقل خطورة عن إهدار الدماء نفسها.
قصارى القول، عهد دولة – غرفةٍ مغلقة النوافذ، وعهد الدولة الحزبية، وعهد الدولة المتقوقعة التي تقفل نوافذها وأبوابها وتفتح أبواب معتقلاتها لتنام المدينة صامتة في عهدة حكامها، كل تلك الدول قد انقضت وانتهت. لن يدخل الكورد العالم دون مؤسسات حقيقية، ودون رجال يحلمون ويحققون حمل المشعل ويتجرؤون على الانخراط في العالم. رجال يكتبون ويرسمون أحلام شعبهم بالأرقام”.
التعليقات مغلقة.