المجلس الوطني الكوردي في سوريا

محمود عباس: مصداقية الباحث العربي محمد جمال باروت مثالاً “الجزء الثامن”.

144

جاء في قصيدة مالك بن الريب التميمي، صاحب المرثية العربية المشهورة، ذكر للقرى الكوردية ما بين خراسان والجزيرة العربية:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة…. بجنب الغضى أزجي القلاص النواجيا
….
أجبت الهوى لما دعاني بزفرة …. تقنعت منها، أن ألام، ردانيا
أقول وقد حالت قرى الكورد دوننا …. جزى الله عمراً خير ما كان جازيا
من الملاحظ أن الشاعر لا يأتي على ذكر لديار القبائل المضرية أو الربيعة أو بكر، بين ديار بني تميم وجغرافية الكورد، حتى بعد الغزوات العربية الإسلامية الأولى، فما بالنا ما قبلها، فلو كانت القبائل العربية هذه موجودة في تلك الجغرافية بين الجزيرة العربية وخراسان، حينها أو قبلها؛ لذكرها الشاعر العربي الأعلم بأماكنهم. فهو من قبيلة بني تميم التي كانت مساكنها في النجد والبحرين.
بعد الاطلاع على المعلومات التي يسردها الكاتب في الصفحة (133-134) يظهر التناقض فاضحا بينها وبين المعلومات التي عرضها في الصفحات (35-45) وكذلك مع مرثية الشاعر، وهو ما يحاول أن يثبتها كجغرافية لقبائل الشمال العربية التي لم تتجاوز نجد والمناطق التي أوردناها سابقاً، ففي هذه الصفحات وما بعدها ينعدم الوجود الجغرافي للقبائل العربية القيسية والربيعة من المنطقة، ولا يعود الكاتب إلى ذكرهم، بعدما كان يركز عليهم في بداية الكتاب؛ لتوسيع الجغرافية العربية ومحاولة تثبيتها كمطلق تاريخي، وأمتد بها حتى أطراف جبال طوروس، وهي محاولة لتثبيت رغبة الأحزاب العروبية الشمولية كالبعث.
فينتقل وبسرعة من الماضي ما قبل الإسلام إلى الماضي القريب، ليركز على مواقع قبيلة عنزة، كمخرج من الضائقة التاريخية التي لا توجد مصادر مؤكدة لتثبيتها. وقبيلة عنزة هي فرع من فروع ربيعة، التي أصبحت الأكثر انتشارا في شمال بادية الشام، وجنوب الفرات الأوسط، في نهايات القرن الثامن عشر؛ حيث كانت هجراتهم الأولى من شمال الجزيرة العربية، وبدايات ظهور آل سعود على الساحة، الذين ينسبون ذاتهم إلى قبيلة عنزة، وقد خرجت منها بطون وفروع عديدة. ففي تلك الصفحة وباختصار يحدد موقع عنزة -الرولة الجغرافي ضمن بادية الشام، ونادراً ما كانت تصل بعض من فروعهم، كعشيرة عنزة-الفدعان، بترحالهم إلى أطراف الخابور الأدنى، أي مصبه في الفرات، قاصدا الجغرافية الآهلة بالكورد، وعلى الخصوص القبائل الكوردية الإيزيدية، الذين كانوا في كثيره حضرا، في جنوب سنجار وحتى مصب الخابور مع الفرات الأوسط. وديمغرافية سنجار التاريخي وما حولها من الحضر معروفة منذ بدايات الساسانيين والغزوات الإسلامية الأولى، وحتى حملات الإبادة العثمانية المتتالية عليهم بسبب ديانتهم الأزداهية العريقة والتي عكستها الزرادشتية والمانوية والإبراهيمية الثلاث.
ويثبت تاريخ مدينة سنجار العريقة والمار ذكرها عند جميع المؤرخين العرب القدامى، والمستشرقين، على الوجود الجغرافي للكورد الإيزيديين في تلك المنطقة، وتواجدهم في المراكز الحضرية رغم الهيمنة الإسلامية، وعلى مدى قرون عدة. ويوثقها الكاتب في كتابه بمقولة عابرة في الصفحة (137).
هنا لا نورد مصادرا، لتثبيت مقولتنا، لأن الكاتب يسقط عن ذاته المصداقية، على خلفية التناقض بين مصادره، وأسانيده القاصرة أو الضعيفة في تثبيت تاريخ حضور القبائل الرحل العربية. كما وأنه وعلى مدار كتابه يستخدم أسلوبه المميز في التمويه، والدارج عادة لديه، بعرض مصادر عديدة وراء بعضها البعض وبكثافة؛ حتى لو لم تكن لهذه المصادر علاقة بالموضوع؛ وذلك ككاتب السلطات الشوفينية، للتغطية على تلفيقاتهم من أي نوع كان. مجرد إلهاء القارئ وثنيه عن التحقق من المصادر، مثلما يفعلها اقتصادييهم بسرد إحصائيات وراء أخرى ليصرفوا بها شأو المتلقي على تقصي مصداقية الأرقام.
حتى لو جزمنا بتاريخ الباحث، وسكنهم لجغرافية الجزيرة، المدرجة عربيا، والممتدة حسب منطق بعض سياسييهم قبل باحثيهم، إلى مدينة (آمد) ديار بكر، فلن يطيح بوجه الغرابة فيما آل إليها تاريخ قبائل الشمال العربية، وأين هم الآن؟ هل انقرضت تلك القبائل الكبرى، والتي كانت تعرف، في التاريخ العربي-الإسلامي، بربيعة وفروعها الأربعة، ومثلها القيسية، من الجزيرة كليا، أم أنه تاريخ انبنى على أساطير مختلقة لقبائل رحل، جاءت مع الغزوات الإسلامية الأولى، وعادت بعد فترة إلى مواضعها؟ ونعلم أن مقولات إضفاء الأسماء والتحضر، المبنية على دراسات التاريخ العصري والمستنسبة إلى الطرق العلمية في البحث، تحتوي على إشكاليات مليئة بالبتر والتلاعب، ظهرت معظمها، في ظل هيمنة السلطة العربية، وهي تشبه في كثيره العروض الأسطورية للمؤرخين العرب، مثل تاريخ قبائل العمالقة وغيرها من الأساطير.
وإدراج الباحث جنوب كوردستان، وبهذه السذاجة التاريخية، تحت ملكية القبائل العربية، وليست كسيطرة آنية ظهرت مع الغزوات الإسلامية، تجاوز لكل القيم العلمية الأركيولوجية والوثائق التاريخية والعلاقات البشرية في تلك المناطق، وتأكيده على أن هجراتها من الجزيرة العربية حصلت قبل الإسلام واستوطنت تلك المناطق، تحريف، لا يخامره الشك، للحقائق التاريخية، ومن ضمنها حقائق التاريخ الإسلامي، وما أوردها المؤرخون الإسلاميون كالطبري وابن الأثير، والمقريزي وغيرهم، وتذكير المناطق بديار بكر وربيعة وغيرها في كتابه المذكور، المسنود على المصادر الحديثة المدعومة من القوى العروبية الصاعدة، ينسف مصداقية الكاتب، ويفضح تزويره للوثائق التي يفردها في القضايا الأخرى. ولأسباب عديدة، منها:
يتبع…

التعليقات مغلقة.