مصداقية الباحث العربي محمد جمال باروت مثالاً “الجزء الخامس”.
د. محمود عباس
3- رواية تقديم العلوم باللغة العربية إلى جانب اللغتين اليونانية والسريانية في نصيبين والرها وسلوقية قبل الإسلام (أنظر ص 40)، الإسناد الوحيد، غير مسنود، وهو افتراضي، على ما يبدو، من ألـ “باحث” ذاته. لم نعثر على مصادر تاريخية تثبت المقولة، وما يقدمه من مراجع، يعود إلى مصدره الوحيد المطران مار باواي سورو، ولا يوجد في كتابه نص بهذا الزعم، بل بالعكس فالمطران الذي ولد في كركوك عام 1954م وتكلدن أي صار كلدانيا بعد تحوله من الكنيسة الآشورية إلى الكنيسة الكلدانية، ويخدم الآن في كاتدرائية القديس بطرس الكلدانية الكاثوليكية في سان دييغو بأمريكا، يقدم الدلائل وراء الدلائل على أن الآرامية- السريانية كانت لغة المسيحيين في المناطق التي يعنيها الكاتب في معظم مراحل السلطة الإسلامية، ويذكر في كتابه المذكور (ص 94)؛ حيث ينص أنه: “كانت الآرامية لغة البشارة الرسولية في فلسطين وسورية وبلاد ما بين النهرين” اهـ. وفي (ص263) يورد الآتي: “يسمي مرحلية حنين أبن اسحق في العصر العباسي بالعهد الذهبي للعلم السرياني في بلاد ما بين النهرين” اهـ. إن كانت تقديم العلوم بالعربية إلى جانب السريانية حقيقة واقعة فمن الأرجح أنها تعود إلى الحقبة الإسلامية، وليس قبلها. وتوجد مقولة معروضة بهذا المنطق استخدمها البعض بتحريف، مثلما تلاعبوا بمقولة المؤرخ أبن ماري (ص29) والتي تنص: “أنه تَلْمَذَ العربَ… ومنهم تلميذه (تبالاها) الذي رد أقواما من العرب في أرياف الفرات…” اهـ. وهنا نتساءل هل يعني أن رد أقوام من العرب في حقبة ما قبل الإسلام هو تقديم للعلوم بالعربية لمن خلفيته عربية إلى جانب اللغة السريانية؟ واستخدام الكاتب عبارة تقديم العلوم بالعربية إلى جانب السريانية واليونانية هذه العبارة تحمل معان كثيرة ويتوسع مجالها ويضيق؛ وذلك حسب الموقف الذي يتواجد فيه الكاتب، بإمكانه بعد التمحيص في مصادره أن يحصر تقديم العلوم بالعربية في نطاق “الوعظ”، في هذه الحالة اختزل الكاتب العلوم الذي ضخمها في زعمه ذاك وحجمها في الوعظ فقط، حينها لا نقاش معه في هذا الموضوع؛ طالما خص ما عناه بالوعظ فقط، إن كان الوعظ يحمل معنى العلوم الذي قدمها لنا في وثيقته “الموثقة!”. والمقبول عقلا، قد يكون بعض القساوسة الذين زارهم بعض العرب المسيحيين قاموا بوعظهم باللغة العربية، مثلما يحدث الآن في البلاد الإسلامية غير العربية؛ حيث يقوم الواعظ بوعظ الناس شارحا لهم الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة بلغتهم بعدما يقرأها بالعربية. وهذا لا يعني أن تلك الدول أصبحت عربية. وزيارة العرب المسيحيين للقساوسة والرهبان لا يدل على عروبة تلك الأراضي. واكتشاف كريستوفر كولومب لأميركا واحتلالها من قبل الأوربيين القادمين ما يقارب من خمسة قرون لا زالت أميركا معتبرة أنها موطن الهنود الحمر. متى كانت دمشق عربية قبل الفتح الإسلامي أو مصر أو شمال إفريقيا. مثال آخر بالرغم من حكم بني إسرائيل لمصر في عهد النبي يوسف عليه السلام، لم تتحول مصر إلى موطن لهم. وبهذا المنطق الذي يسرده الكاتب وثائقه التاريخية عن عروبة الجزيرة السورية يحق لليهود اعتبار يمن يهودية؛ حيث النبي سليمان عليه السلام ضمها إلى مملكته عندما تزوج بلقيس اليمانية والقرآن الكريم يشهد على ذلك. لو كان الكاتب يتحلى بالعلمية كما ينبغي لما ادعى بعروبة الجزيرة بهذا الشكل مسقطا عن شخصه الحياد والأمانة العلمية.
ومن الموقع الرسمي لبطريركية أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذوكس، يذكر قداسة البطريرك مار أغناطيوس زكا الأول عيواص، في بحثه (السريان والإسلام تاريخ مشترك) (السريان اليوم هم أعضاء كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسيّة، السلالة المباشرة لأجدادهم السكان الأصليين لبلاد سوريا ولبنان وفلسطين وآسيا الصغرى وما بين النهرين العليا والسفلى أي العراق. وكانت لغتهم الآرامية السريانية لغة سوريا القديمة التي تكلّمها السيد المسيح. وهي اللغة التي كانت مهيمنة على تلك المنطقة عند ظهور الإسلام). وفي مجال الانتماء العرقي، يقول البطريرك أفرام الأول في رسالته إلى الشماس فائق: عندما حاولت بريطانيا نشر القومنة الأثورية ونشر اللغة الكلدانية كبديل عن السريانية، ” لا نرضي تبديل السريان بالأثوري: لأن اللغة السريانية هي غير اللغة الأثورية على الإطلاق. أخطا كل من أطلق ” الأثوري” على اللسان الأرامي “ويتمم ليستند على “أبن العبري” ويذكر” هل أورد مثل هذا اللفظ ” الأثوري” مرادفا للأرامي”؟ ويذكر الكاتب هذه المقولة في الصفحة (447-448).
علماً أن البعض من البطريركية والهيئة الكنسية الشرقية في العصر الحديث، ينزاحون في عرضهم للتاريخ عن خط الأجيال السابقة، بسبب هيمنة السلطات العروبية وفرض الثقافة العربية، التي خلقت تأثيرا قويا على المسيحيين الأصليين في سوريا والعراق ومصر، الذين كانوا متمسكين بلغتهم في المجتمع مثلما كان في الطقس الكنسي، حتى الثلاثينات من القرن الماضي، ومثلها في انتماءهم القومي، وظهر هذا التخلي التدريجي والسريع جليا بعد منتصف القرن الماضي. فخلال هذه الفترة القصيرة، غابت عند أغلبيتهم انتماءاتهم القومية الأصلية، ساعدتها أساليب التضييق على استعمالهم للغاتهم القديمة العامية، السريانية والقبطية والكلدانية، عن الشارع والبيت، وحصرها ضمن مجال الطقوس وفي بعض الكنائس وليست كلها. وعلى أثرها ظهرت صفحات جديدة لتاريخهم مغايرة ومتعارضة في كثيره مع مؤرخيهم القدماء، للتغطية على هذا التحريف والتشويه. ويتزايد هذا الانزياح، والتخلي الممنهج عن الذات مع الزمن، مع تصاعد هيمنة السلطات العروبية على سلطة الكنيسة، والواضح في نهاية الموقع المذكور آنفاً، حيث خطاب التمجيد بالرئيس السوري حافظ الأسد وأبنه بشار الأسد.
يتبع…
التعليقات مغلقة.