محمود عباس: مصداقية الباحث العربي محمد جمال باروت مثالاً “الجزء الثالث”..
كما ذكرنا سابقاً، سنكشف للقراء مغالطات معينة من الكتاب وليست جميعها، والتي يحاول الباحث تمريرها من خلال العرض المكثف للمعلومات، أو لنقل الإسقاطات الكثيرة للحوادث التاريخية لمنطقة الجزيرة، والمجمعة من أنواع معينة من المراجع، والتي معظمها ليست سوى حشو لصفحات الكتاب، أو لنقل، وتقديرا للجهد المبذول، بأنه تجميع للمعلومات التاريخية وتشكيل أرشيف عن الجزيرة، وضعه بين دفتي بحثه، لغاية سياسية قومية عروبية بحته، منها اقتطاع الجزيرة عن جغرافيتها الكوردستانية، وضمها إلى الوطن العربي المفترض، وطمس ديمغرافيتها الكوردية التاريخية، بحداثة الظهور وغرز مكانها تاريخ للوجود العربي، قديما وحديثا، والتلاعب بالإسناد الضعيف والهش في الحالتين، والمؤدي إلى غياب المصداقية في البحث، ودون أن ينتهي إلى استقصاء أو استنتاج علمي تاريخي مبني على تلك المراجع، لأن الغاية السياسية مفروضة قبل تجميع المعلومات، وهنا نحن أمام جدلية شاذة، وهي أن النتيجة تسبق المعلومات وليس العكس.
في البعد الجغرافي، يحاول الباحث إيجاد ثبوتيات تاريخية للوجود العربي، الرحل والحضري، في شمال الفرات الأوسط وغربها حيث الجزيرة السورية، وشمال شرقها، تحت أسماء القبائل العربية التي انتشرت في جنوب البادية السورية ومناطق الأنبار العراقية، كقبائل ربيعة وقيس، أو ما كانوا يسمون بقبائل الشمال أو العرب المستعربة، قبائل جغرافية شمال الجزيرة العربية. والصفحات التاريخية المستحدثة والمتلاعبة بها حديثا، أصبحت محور جدال واسع، في الفترة الأخيرة، منذ انتباه الشعوب غير العربية، على التحريف الجاري على تاريخ هذه القبائل، قبل الإسلام وحتى نهايات العصر العباسي، والمعروض بمساعدة السلطات العروبية الناهضة، وجعلها ثبوتيات مطلقة، بإصدار مؤلفات حديثة حولها، وترسيخ تلك المقولات في الكتب التعليمية، إلى أن انتقلت من التأليف والتلفيق لحوادث تاريخية لا وجود لها ضمن المنطقة الجغرافية المقصودة تشويهها، والتي لا رابط بينها من حيث الحدث والمكان والزمان، إلى ثبوتيات، تتلاءم وأهواء الشريحة القومية العربية الصاعدة، دون ظهور دحض أو تنقيح للمغالطات التي سايرت أبحاثهم وكتبهم على مدى العقود الماضية، والمنتشرة بشكل خاص في الفترة التي تصاعدت فيها النعرة القومية العنصرية العربية، وهيمنة السلطات والأحزاب القومية، والذين قاموا بتسخير شريحة واسعة من المثقفين العرب والباحثين والمفكرين لنشر هذا التاريخ المطعون في مصداقيته، دامجين الظهور العربي في المناطق التي دخلها الإسلام، وسادت فيها اللغة العربية، مع مناطق سكن قبائل عربية سميت بقبائل الشمال، والبعض توسع في هذا التشويه التاريخي ليوصلوا بالمد العربي قبل الإسلام إلى أطراف ديار بكر(آمد).
ولإسناد هذه الخلفية الفكرية المدعومة بريطانياً، في بدايات القرن الماضي كأسلوب للقضاء على الهيمنة العثمانية في المنطقة، ظهرت أبحاث متتالية، بنكهة جديدة، غارقة بالتلاعب بتاريخ المنطقة. والباحث محمد جمال باروت، أحد هؤلاء الذين تأثروا بهذه المسيرة، فتم تجنيده من قبل السلطات القومية العروبية السورية، والأن تسنده دولة قطر.
1- يبدأ الباحث بسرد جدليته، وبمقدمة غريبة، حول كمية الأبحاث المستخدمة والمراكز التي استسقى منها معلوماته، لكن لا يسرد مدى مصداقية مصادره، ولا خلفية تلك المراكز التي عرضت التاريخ، ومعظم مصادره حديثة العهد، في تاريخ يعود إلى بدايات الإسلام، بعضها غير مسنود، (بدءً من المقدمة وحتى الصفحة 39 في البعد الجغرافي) باستثناء المعلومات العامة والحوادث المعروفة أو المنتقاة من الأرشيف الحديث حول الوجود العربي في منطقة الجزيرة، كما وأن معظم المصادر المذكورة لا تلتقي والعرض أو الفكرة، وعلى سبيل المثال ما يذكره الباحث في هامشه رقم (16) الصفحة(41) حول مصدره لأبن الأثير ومقولته حول أسم الجزيرة، ورغم أنها تؤيد مفهومنا وتتناقض وغاية الباحث، لكن أبن الأثير في المجلد (10) دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، الصفحتين (391-392) المستند عليها والواردتين كمرجع، لا تذكر فيها أسم الجزيرة وتاريخها، والصفحتان تبحثان في ( ملك الفرنج…، ووفاة بهرام شاه..، وملك الفرنج مدينة عسقلان، وحصر الخليفة تكريت ) وهذا مثال واحد من المصادر والهوامش العديدة المستخدمة بشكل ملفق. وأغلب الكتاب أو الباحثين الذين يستند عليهم، بعضهم دخلوا في نفس المغالطات التي هو سقط فيها، ولا شك يدركوها لكنه لا يجد الأفضل لدعم غايته في سرد التاريخ بهذه الطريقة، فلا يستند على المؤرخين القدماء، أمثال الطبري، والواقدي وأبن إسحاق، على سبيل المثال، وهؤلاء أقدم المؤرخين العرب، مادام يبحث في التاريخ القديم، ولا شك له غاية من الاستناد على المؤرخين الذين عاصروه، ويتناسى أيضا غير العرب من تلك المرحلة والذين كتبوا تاريخ تلك الفترة الزمنية. فمعظم هجرات القبائل العربية إلى مناطق شمال سوريا الحالية، وجنوب كوردستان، التي يتحدث عنها، ويؤكد عليها بأنها حدثت قبل الإسلام بكثير، تحتاج إلى مصداقية واستنادات علمية شفافة، لكنه يطرحها بدون دليل تاريخي أو سند من مصادرها القديمة، ويتغاضى إما عن قصد أو أنه لم يجد سند له في كتب المؤرخين العرب القدماء، وجل ما أعتمد عليه، هي حرب البسوس التي جرت بين كليب وجساس (أنظر كتابه ص39)، المشهورة في أساطير القبائل العربية وأشعارهم، وهي في كليتها لا تعتبر سنداً رصيناً، لأن الحرب ووقائعها جرت في شمال شرق الجزيرة العربية، حيث جغرافية القبائل المتحاربة، ولم يتجاوزوا جنوب البادية السورية، باستثناء مناوشات عرضية، تلاسنها شعراءهم، كهجاء أو افتخار، يذكرون فيها مناطق التصادم بينهم، خارج جغرافيتهم، كالحادثة الوحيدة التي جرت على ضفاف نهر الخابور عند مصبها في الفرات الأوسط، كإحدى المعارك المهمة، وذلك أثناء رحلة البحث عن الكلأ لقبيلتين خارج مناطقهم، والارتحال حينها إلى مسافات أبعد نحو الشمال من الجزيرة العربية، والمعركة كانت بين فخذين من قبائل رعاة الجمل، وهم قبائل المسافات الطويلة، وكانت تحدث على خلفية الجفاف العام الذي كان يجتاح شمال الجزيرة العربية مرارا. وحول المنطقة الجغرافية التي حدثت فيها وقائع حرب البسوس، نورد المقطع التالي لأحد الباحثين العرب (هناك اختلاف بين المؤرّخين على المكان الذي تمت فيه معركة البسوس؛ حيث إنّ البعض قالوا بأنّها دارت في منطقة نجد، والبعض قال إنّها وقعت بالقرب من مدينة زبيد في اليمن، لكن الموقع المرجّح هو تهامة في وادي الخيطان؛ وذلك بسبب وجود وادي البسوس وقبر كليب وحدبة كليب في منطقة تهامة، ممّا يدلّ على أنّ الحرب وقعت على الأرجح في هذه المنطقة) .
2- لتثبيت جدليته حول الوجود العربي في شمال الفرات الأوسط وشرقها وشمال العراق، يحاول تسخير البعد الديني المسيحي، فيظهر التلاعب، وتنكشف إحدى المغالطات التي يستند عليها، فيخلط بشكل متعمد ومن بداية الصفحة(39) بين القبائل العربية المسيحية كربيعة ومضر وبكر وغيرهم….
يتبع…
التعليقات مغلقة.