محمود عباس: قراءة في المشروع الأمريكي الفرنسي البريطاني لمنطقة الجزيرة.
بدأت تبرز أصوات من البنتاغون، بعيدة عن السياسة، تقول أن الحرب على داعش في سوريا وقفت منذ بدأ الهجوم التركي على منطقة عفرين، ومن بين هذه التصريحات الرسمية وغير الرسمية، وجميعها مخططة، وتهدف إلى غاية ترسيخ الوجود الأمريكي، تلك التي قالها أحد المتحدثين باسم وزارة الدفاع، الميجر (أدريان كالوي) في تاريخ 5-3-2018م ” الحرب على عفرين أوقفت الحرب على داعش، لكننا لم نخسر الأرض بعد” في الشق الثاني من التصريح تكمن المعضلة الأمريكية، وهي القضية المقلقة لها، والتي من أجلها أعادت النظر في استراتيجيتها ضمن سوريا، وعلى أساسها ترتكز بقاءها أو خروجها من سوريا، مثلها مثل وجودها في مدينة منبج، البوابة التي ستخرج، سياسا وعسكريا على الأقل، خلالها من كل سوريا في حال الموافقة على الشروط التركية، وهي الإملاءات الروسية غير المباشرة، أو ستغلقها في وجه الطموح التركي في المنطقة الكوردية، بغض النظر عن تنازلاتها لها في بداية غزوتها على عفرين لاحتضانها من جديد.
أصبح أكثر من واضح توزيع المناطق السورية بين القوتين الكبريين، روسيا وأمريكا، والقوى الدائرة في فلكهما، والفرات أنتقل من مجرد نهر يقسم جغرافية سوريا إلى فاصل حدودي، يلعب دور الإحداثيات السمتية السياسة والعسكرية، وعلى ضفافها كانت المجزرة، شمال منطقة دير الزور، للميليشيات الإيرانية وبينهم مرتزقة من الروس.
الحادثة التي رسمت الخطوط شبه النهائية لتقسيم المصالح، وديمومة الصراع بين روسيا وأمريكا، والخطة هي ذاتها المتكالبة عليها تركيا منذ سنوات، مطالبة أن تبقى غربيها منطقة دولية تحت حمايتها، ولاحقا محمية روسية-تركية، وفي السنتين الأخيرتين كثفت من جهودها لئلا تكون بيد الأمريكيين، أي عمليا لتجردها من الكورد، وتقطع عنهم وعن الأمريكيين محاولة بلوغ البحر، علما أنها كانت هناك شبه اتفاقية أمريكية روسية، المرحلة اللاحقة بعد دير الزور إخراج داعش والنصرة من شمال إدلب، عمليا كانت خطوة إلى البحر، وهي التي حثت تركيا على الاستعجال بتطبيق بنود مؤتمر أستانه، ودخول منطقة ٍإدلب عسكرياُ، تحت مسوغة مراقبة المنطقة وحماية المعارضة، والجميع يعلم ليس فقط لم تقدم أية خدمة للمعارضة في منطقة إدلب، بل بالعكس أسرعت بجلب جحيم سلطة بشار الأسد والطائرات الروسية.
هذا هو السيناريو المتوقع للمرتزقة العروبيين الغازين على منطقة عفرين، في حال نجحت خطة أردوغان وأخرج الكورد منها، والغريب أن لهم في هذا تجارب، ويدركون تماما أن القوات التركية ستتخلى عنهم، ليصبحوا طعما للطائرات الروسية والميليشيات الإيرانية ومجرمي بشار الأسد، مع ذلك يرضخون للإملاءات التركية، إما أنهم فعلا تحولوا من معارضة سورية إلى مجموعات مرتزقة، تتجار بهم تجار الحروب، المتغلغلون ضمن المعارضة، أو أنهم لا حول ولا قوة لهم في محاربة أبناء وطنهم، وهنا نقول أنهم يعلمون أنه في عفرين الأن أكثر من مليون مهاجر عربي من المدن الداخلية، ولا نستبعد أنهم يدركون ما تطمح إليه تركيا، وكذلك روسيا وأمريكا، وعليه كان الأولى بهم مساندة الكورد لا محاربتهم ومساعدة القوى الإقليمية في تقسيم سوريا.
تناهت إلى مسامع الجميع محادثات اللجنة الثلاثية في قامشلو، والتي ولا شك أن لروسيا علما بها، وكذلك الأطراف الإقليمية المعنية بالأمر، مع الأطراف العربية والكوردية والمسيحية، كقوميات وقوى سياسية لها طموحاتها المنفصلة. عارضين مقترحات لدراستها، وتركزت معظمها على هدف رئيس، وهي تكوين إدارة سياسية على جغرافية غربي الفرات، المنطقة التي تحررت بيد الكورد من داعش، والمهيمنة عليها دوليا الأمريكيون، وباتفاق غير معلن بين روسيا وأمريكا. الإدارة الذاتية ستكون باستقلاليتها على مقاس كونفدرالية، دون الاسم لحساسية القوى الإقليمية منها، لها مؤسساتها، مرتبطة بالمركز كجغرافية، دون سلطة فعلية، يحكمها رئيس من الطائفة المسيحية، ولا صفة قومية لها، أي ليست كوردية، إلى جانب عروض أخرى، منها تشكيل حزب على مستوى سوريا، تحتضن جميع القوميات والأديان، وهذه الأخيرة كان اقتراح جانبي لم يتم التركيز عليه.
إذا عدنا إلى التاريخ القريب، أي الثلاثينات من القرن الماضي، لاصطدمنا بجذور هذا المشروع، ولوجدنا الكثير من حيثياته، يوم حاولت جميع القوى (فرنسا، تركيا، العرب السوريون) بشكل مباشر أو غير مباشر، تجزئة منطقة عفرين عن الجزيرة، والقضاء على كوردستانية الأخيرة، وعلى هذا المخطط قدمت فرنسا بطرح مشروع الحكم اللامركزي لأهالي الجزيرة، دون تحديد لخصوصيات الشعب الكوردي، حينها كما نحن الكورد الأن أمام معضلة التهميش المتعمد، تاريخا، وديمغرافية والأهم جغرافية.
لن نعيد دراسة تلك المرحلة، فقد كانت لها إشكالياتها، حيث التوجه الفرنسي الداعم لقوى دينية دون اعتبار للقومية الكوردية، ودفعت ببعض الكورد لدعم التوجه المسيحي الكاثوليكي حصراً دون الكورد، وغلبت عليها المصلحة الذاتية، وتمت على أثرها قتال ديني، وتدمير عاموده من قبل فرنسا، ومحاولة قتل زعيمها سعيد أغا الدقوري. حينها واليوم لا علاقة بأبناء المنطقة بالمشروع، بقدر ما الخطة تلبي مصالح القوى المسيطرة، والأحكام تختلف حسب الزمن وعلى خلفية تغيير المفاهيم، ويبقى الأصح رهن للعصر، ومدى استفادة الكورد كقومية، وتحقيقهم لمطالبهم، ولا شك هذه التقييمات لا تعكس كراهية أو بعداً عنصرياً أو شماتة بالشرائح الدينية أو القومية الأخرى من المجتمع، إننا نؤمن كما كان أجدادنا يؤمنون بالعلاقات الإنسانية والوطنية حسب المفاهيم الحاضرة، وطبقوها على أرض الواقع، وتاريخ المنطقة وقراها بموزاييكها الديني تثبت هذه الحقيقة.
الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن القوى التي ستسند وجودها في غربي الفرات مستقبلاً، وتعلم أن القوة الكوردية هي الأكثر مصداقية، وذلك على خلفية مصالحها المتقاطعة مع المصالح الأمريكية في هذه المرحلة على الأقل، لكن إشكالية القوى الإقليمية، وخاصة المستعمرة لكوردستان، وعلى رأسهم تركيا، تدفع بها أن توسع من بحثها ومرتكزات اعتمادها، مثلما تبحث عن المصطلحات الملائمة لذهنية القوى المعادية للكورد وطموحاتهم في وصف الإدارة المأمولة تكوينها. وهنا تركيا تعيد تجربة الماضي المؤلم والخبيث، بعزل عفرين عن منطقة الجزيرة، فمثلما قامت بتشكيل حركة المريدين في العشرينات من القرن الماضي وعبثت بالمنطقة، حشدت اليوم المنظمات التكفيرية العروبية ودفعت بهم إلى نفس المنطقة، تحت شعارات جديدة ومسوغات تتلاءم ومطامع العنصريين الأتراك ومطامح مرتزقتهم، والغاية إما تجريد الجزيرة من كوردستانيتها، أو إضعاف المكون الكوردي في جنوب غربي كوردستان كقوة ديمغرافية، وبالتالي تحقيق حلم العروبيين بالقضاء على كوردستانية هذا الجزء.
لأسباب ما تتخبط أمريكا في المشروع، مثلما فعلتها فرنسا في القرن الماضي، وعلى الأغلب تدرك كما وفرنسا وبريطانيا يعلمون أن تركيا وإيران من أكثر الدول المعارضة على قيادة غير إسلامية، والتركيز المباشر على هذا البند لها شرورها على مجتمعنا المسيحي أكثر من إيجابياتها، فإقامة كيان مشترك يشمل الجميع، تعكس بعداً حضاريا لا بد من التمهيد له، والكورد أكثر الشعوب في المنطقة تقبلاً لهذه المفاهيم، خاصة وأنهم ينتمون إلى جميع الأديان الموجودة في المنطقة، والحركات الكوردية الثقافية والسياسية تؤمن وتشدد على هذا التنوع منذ بدايات تكوينها، رغم غلبة العنصر الإسلامي، وعليه فالحضور الكوردي كقومية ستزيل هذه الإشكالية الدينية، دون الوقوع في مستنقع صراعاتها في الوقت الذي تغرق فيه المنطقة في الصراعات المذهبية بين الشيعة والسنة.
كما وأن أمريكا باستغنائها عن منطقة عفرين كجزء رئيس في جسم هذه الإدارة، وتخليها عن مساعدة الكورد في عفرين والسكوت على الهجوم التركي فقط لاحتضانها من جديد، تكون قد همشت وجودها وزعزعت مستقبلها في المنطقة، وهذا ما تريده روسيا وتركيا وإيران ويخططون لها، وبها ستكون قد قضت على مركز ثقلها الرئيس، وهو الوجود الكوردي ديمغرافيا، وبهذه الخطة تكون قد مزقت جنوب غربي كوردستان جغرافية، ونقلتها من واقع أربع إجزاء إلى خمس إجزاء، خاصة عندما ستكون الإدارة مبنية خارج الصفة الكوردية أو الكوردستانية، حتى ولو كانت ستحفظ حقوق الجميع ضمنها في الحيز الديمقراطي، ولكن علينا ألا ننسى أنها ستكون تابعة لكيان عروبي وليس عربي، وحيث هيمنة السلطات الشمولية العروبية بكل أبعادها، وفي الواقع بهذا التكتيك سيكون الوجود الأمريكي في المنطقة أقصر مما تتوقع.
ولوضع حدا لكل هذه المخططات، على القوى العربية الوطنية وغير العربية في سوريا تقبل المشروع الكوردي، في إقامة كيان فيدرالي في سوريا لامركزية، وقبول المنطقة الكوردستانية الفيدرالية بمناطقها الثلاث (الجزيرة وكوباني وعفرين) كوحدة إدارية فيدرالية، بجميع مكوناتها الديمغرافية، والدينية، والمذهبية. وعدم الانجرار وراء تركيا وإيران للعبث بسوريا، عن طريق تسخيرهم للمنظمات التكفيرية العروبية وسلطة بشار الأسد الإجرامية كأدوات لتمرير أجنداتهم في المنطقة.
المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر الموقع
التعليقات مغلقة.