محمود عباس: هل عفرين لعبة دولية..
رسمت تركيا لوحتين سرياليتين على طرفي الصفحة باجتياحها لجغرافية عفرين الكوردستانية، وفي كليهما تظهر نهاية قاتمة لهيمنتها. فالانتقال من حالة التحشدات والترهيب، إلى الاجتياح، تكون قد رجحت احتمالية السقوط في مستنقع حرب طويلة الأمد، غير معروفة عواقبها ونتائجها. فهي تدرك تماماً أنه من السهل وضع بداية للحروب، بخدعة أو مؤامرة إقليمية، يلحقها أمر عسكري، وتوافقات سياسية، لكن بلوغ النهاية لن تكون معروفة، مهما كانت المخططات دقيقة، والحوارات الدبلوماسية مقنعة، فالخروج منها ستتجاوز إمكانيات الأطراف السياسية المتحاورة، لاحتمالية ظهور قوى غير متوقعة، ستضطر إلى المشاركة في الصراع، وستصبح حينها صاحبة جزء من القرار، وبالتالي النهاية ستكون بيد أكثر من الأطراف المغامرة أو المتصارعة.
يقال إن النبيه هو من يستفيد من تجارب الأخرين، لكن حكومة أردوغان، ليس فقط لم يأخذ العبر من أخطاء الدول الإقليمية، الغارقة في مستنقع الحروب الخارجية، بل ولم يتعلم من مطباته ولا من أخطاء سابقيه، وغامر بالدخول إلى نفس المستنقع، والمتوقع أن تكون عملية عفرين بداية مرحلة استنزاف طويلة الأمد. ووراء هذا تجري سيناريوهات دولية، واستراتيجيات تشرف عليها أمريكا وروسيا. ولربما لقناعة أردوغان الفارطة بنفسه وبقوة تركيا العسكرية، يتناسى أن أكثر من 90% من أسلحته مصنوعة خارج تركيا، حتى ولو فرض عليها أن تكون ثاني أقوى الدول في الناتو، وأن أمريكا أو روسيا بإمكانهما وضع نهاية لعنجهيته، ولا يود الاقتناع أن استمراريته قويا يستند في معظمه على التوازنات الدولية، كالجارية حالياً والتي سهلت له الحصول على الضوء الأخضر لاجتياح المنطقة الكوردية.
كانت وجهات نظر معظم المحللين السياسيين متقاربة أثناء التحشدات، وجلها توقعت الموافقة الروسية، وأمريكية مشابهة، وأنها ستكون سريعة وفي فترة زمنية قصيرة، لكن القلائل من بحثوا في موقع هذا الاجتياح ضمن استراتيجية الدولتين في سوريا والمنطقة بشكل عام. والدول الكبرى بنوا ويبنون مواقفهم على البنية التحتية السياسية التي بنتها الإدارة الذاتية، ونهجها وتعاملها مع القوى الكوردية الأخرى، إلى جانب أخطاء أخرى لم يتمكنوا من وضع حلول لها أو أنهم ولقناعة خاصة لم يأتوا بالبديل الأفضل، وهو ما أدى إلى أن يتم تقييمهم كإدارة دون مستوى الإدارات القادرة مستقبلا أن تبني دولة أو منطقة فيدرالية بنظام ديمقراطي صحيح، ويرجح أن الموقف الأمريكي قائم على هذه الرؤية فلم ينتقل من الدعم العسكري إلى السياسي والدبلوماسي المطلوب.
مع ذلك ورغم هذه الانتقادات، تمكنت من تكوين قوة عسكرية على مستوى أن تدرج ضمن تحالف يوجد فيها أكثر من ثمانين دولة وعن طريق أمريكا، ولذلك تتبين حتى الأن، والعملية تجاوزت يومها الخامس، لم تتمكن تركيا من دخول المنطقة، والمقاومة الكوردية تزداد شراسة يوما بعد يوم، حسب تقارير المراقبين والصحفيين الميدانيين، وهذه تدل إلى جانب قوتهم العسكرية والإيمان بالقضية، على أنه هناك تحركات دولية غير معلنة تشد العملية إلى اتجاهات مختلفة، وعلى رأسها أمريكا وروسيا. وبالتالي تركيا والقوى الأعرابية المساندة لها من جهة والكورد من جهة أخرى، ليسوا وحدهم في حلقة الصراع، بل وفي الواقع العملي هؤلاء ليسوا بأكثر من أدوات ينفذون الأجندات، وكما يقال حطب لنار الأخرين، فهل ياترى سيكون هناك منتصرا بينهم؟ أم أن الكل سيخسر، ولن تكون هناك نهاية، وسيكون بشكل أو آخر كالصراع الجاري ضمن الجغرافية التركية بين الكورد والسلطات المتعاقبة منذ قرابة نصف قرن، إن لم يكن قرن إذا أضفنا إليها الثورات السابقة، كما وبدورها تعقدت القضية السورية إلى حدود اللاحل، وتكرار تجربة أفغانستان.
هل ستدرك تركيا أنها استدرجت إلى المستنقع السوري، على خلفية طمس القضية الكوردستانية وهي في مهدها؟ وقد كان جل التحاليل السابقة مبنية على التصريحات المتناثرة، ولقاءات مشتتة، لكن الآن تتوضح المسرحية، وتتبين أن الموافقة الأمريكية استدراج لأردوغان وحزب العدالة والتنمية بشكل خاص، لتزايد كراهية العالم الديمقراطي له على خلفية تبجحه وتطاوله السافر على الجميع الذين يتعامل معهم، والتبجح بالعالم الإسلامي البريء من نفاقه، ولم يكن تأييداً لمطامحه، وافقت عليها بسكوت دبلوماسي، وتصريحات خجولة وملتوية ومتضاربة بين وزاتي الخارجية والدفاع، ولغايتين.
الأولى، عرضوا الكورد كطعم لاستدراج تركيا، وسيكونون وقوداً للعملية، بها سيقطع الأمريكيين آخر حبل بين الروس والكورد، والباقية عن طريق القوات الكوردية الموجودة في عفرين، حيث منطقة الترابط بينهم وبين الروس وما يتبعهم، فالموافقة الروسية للعملية التركية قضت على الثقة المهزوزة أصلا بينهما بعد التقارب التركي الروسي المتصاعد.
والثانية، أردوغان والقوات المساندة له سيكونون الطريدة، ففي حال إطالة أمد الصراع ستكون أمريكا قد أوقعت أردوغان في مستنقع الحرب، المشابهة ربما لتجربة السعودية، وهنا ستكون أعمق وأصعب لأنه سيواجه الشعب الكوردي، والمتوقع أن يزداد التقارب بين فصائلها السياسية، متجاوزين خلافاتهم، في حال توضحت المساعدات الأمريكية والدعم السياسي، والذي لايزال ضبابيا، وإن كان موجودا فهو سري ولا يصرح عنه لاحتمالية رجحان التأثير على تركيا للحد من انزياحها نحو روسيا.
مسرحية الموافقة الروسية مختلفة، وتعرض لعدة غايات، خاصة عند السماح لها باستخدام القوات المعارضة السورية المسجلة عندها ضمن قائمة الإرهابيين، وجلبهم إلى المنطقة المدرجة ضمن نفوذها بشكل أو آخر، في الوقت الذي لا تزال تقصفهم بلا هوادة في إدلب والغوطة الشرقية.
1. رغم أن الكورد هم المستهدفون بشكل مباشر، وسيكونون الخاسرين في النهاية إذا نجحت العملية التركية، إلا أن الموافقة الروسية للتدخل التركي مبنية على استراتيجية زعزعة الوجود الأمريكي غير المباشر في سوريا من خلال السيطرة على المنطقة الكوردية والتحالف معهم. علما أن روسيا في حيز ما تعتبرهم حتى الأن حليفا لها، رغم ابتعادهم أو تبعيدهم من الحضانة الروسية بعد التقارب التركي.
2. تطمح روسيا بتوسيع الشرخ بين تركيا كعضو في الناتو وبين أمريكا، وقد تنجر ورائها أوروبا.
3. استدراج البقية الباقية من المعارضة السورية إلى ساحة المعركة، وهنا ستعيد سيناريو إدلب، وستقوم هي أو السلطة السورية بالمهمة بعد أن تتخلى عنهم تركيا، مثلما تخلت عنهم في حلب وإدلب وحماة وغيرها من المناطق، وذلك في حال الانتهاء من عملية الاجتياح، حينها ستكون قد حصرت المعارضة الإرهابية حسب المقومات الروسية، والمسمى تركيا بالجيش الحر في منطقة جغرافية ضيقة وقريبة.
4. ولا شك بعد هذه المهمات التي ستؤديها تركيا، والتي تتوافق على المدى القريب مع طموحاتها، لن تبقى أمامها إلا التبعية الكاملة للاستراتيجية الروسية، بعد أن تكون قد ضعفت في عملية الاستنزاف الجاري.
لنفرض جدلا أن العملية ليس استدراج لأردوغان، ولا تحريض روسي، بل مبنية على الجموح التركي، وكراهيتهم للكورد، وتخوفهم من المكتسبات التي حصلوا عليها في الفترة الأخيرة، متجاوزين الضغوطات الروسية، والمؤدية إلى الحصول على موافقتهم وعلى مضض، حينها تكون تركيا قد وقعت في خطأ مدمر لها، ولمستقبلها، لأن الوجود الأمريكي في المنطقة والمتمثل بالقوة الكوردية، تحفظ لها توازنها بين أمريكا وأوروبا مع روسيا، ولا يستبعد أن أمريكا ولثقتها بهيمنتها على المنطقة بشكل عام لا تعطي كثير أهمية للهجوم التركي على عفرين. وبغياب الكورد، وسقوط عفرين حسبما يرجحه بعض المحللين السياسيين، بناءً على الإصرار والتصميم الأردوغاني المبني على التحشدات الكثيفة لوحداته العسكرية المتنوعة، وإقناع بعض الأحزاب التركية وعلى مضض، والموافقة الروسية المأمولة من أن استراتيجيتها ستؤدي إلى انحسار الدور الأمريكي، متناسيا أنه بمغامرته هذه سينقل مكانة تركيا من واقع التعامل بالمثل مع روسيا إلى حالة التبعية وتقبل الإملاءات، في حال بقي لها مكانة أصلا ولم ينهي مكانتها في حرب الاستنزاف المتوقع جريانه ضمن منطقة عفرين، ولربما بعد جرها إلى مناطق كوردية أوسع.
ولنكن واقعيين، حول ما ستؤول إليه المنطقة الكوردية، والمدرجة ضمن احتمالين.
الأول، عفرين ستسقط في حال كان هناك أجماع دولي على ذلك، ونقصد هنا أمريكا وروسيا، الأولى لأنها لا تدرجها ضمن مناطق نفوذها، حسب التصريحات الصادرة من البنتاغون ووزارة الخارجية، وهذه على الأغلب تكتيك للتفرد بالقوة الكوردية. وروسيا تطمح بضمها إلى مناطق نفوذها بعد أن تكون قد قضت على المعارضة هناك، وأخرجت تركيا منها. وهوما يدعى دبلوماسيا بتوزيع المصالح.
والثاني، إذا كان هناك اعتراض من إحدى الجهتين، روسيا أو أمريكا، فلن تسقط عفرين حتى ولو تكررت تجربة كوباني، وستتوضح حينها أن العملية استنزاف غير مباشر لتركيا الأردوغانية، ولربما الكورد هم الطعم. وقريبا قد تتدخل قوى أخرى في المعادلة، وتظهر أطراف جديدة على الساحة العسكرية، وهنا سيطرح السؤال نفسه، هل هذه العملية ستكون نهاية أردوغان وحزبه؟ وهل ستتوضح النتيجة على عتبة الانتخابات التركية القادمة؟
المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر الموقع
التعليقات مغلقة.