المجلس الوطني الكوردي في سوريا

الدكتور محمود عباس: هل سيهدأ الشرق الأوسط..

109

على مدى العقود الماضية رسخت إعلام الأنظمة العربية والتركية والفارسية القضية الفلسطينية كعامل وحيد ورئيس لاستقرار المنطقة أو عدمها، وأظهروا إسرائيل كمنبع وحيد للشر، للتغطية على جرائمهم بحق الشعوب المسلوبة حقوقها، كحقوق الشعب الكوردي والأمازيغي والقبطي والفلسطيني، وحقوق شعوب الديانة المسيحية والإيزيديين والصائبة أصحاب الأرض الأصليين، وغيبوا عن العالم بشائعهم بحقوق الآخرين التي تفوق انتهاكات إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني بعشرات المرات، بل وكثيراً ما لا يمكن أن تقاس وتقارن، وخير مثال على نفاقهم، تعتيمهم للكارثة التي حلت بالإيزيديين من قبل طائفة من المسلمين، الذين لم يكفرهم على مجازرهم أي من المراجع الإسلامية وسلطاتها. وتمييعهم لقضية القدس المضخمة اليوم من أجل مصالحهم الخسيسة، متناسين إهمالهم لها ولشعبها إلى أن أوصلوها إلى ماهي عليه الأن، والتغاضي عن مصير الملايين من المهجرين والمقتولين من شرقنا، والقابعين في أقبية مراكزهم الأمنية، مثلما يتناسون آلاف القرى الكوردية التي مسحتها سلطات الدول التركية وأئمة ولاية الفقيه والعراقية من على وجه الأرض، وأغمضت جميع الأنظمة العربية والإسلامية التي اجتمعت في استانبول وصوتت ضمن قاعة هيئة الأمم، أعينها عن مآسي الشعوب السورية واليمنية والعراقية وغيرها، وبالمقابل خلقت ضجة إعلامية مغرضة حول القدس.

بهذه السياسة الرعناء، الغارقة في النفاق، أوصلوا قدس الديانات السماوية الثلاث إلى ما هي عليه من الإهمال، المدينة التي عانت وتعاني من فسادهم قبل أن تصبح عاصمة سياسية، فعادت إلى الأذهان، وبناءً على المقارنة السابقة، الجدلية التالية: ماهي نسبة السلام الذي سيحل بالمنطقة لو أعطت الدول المحتلة لكوردستان جزء بسيط مما يعطيه إسرائيل لعرب فلسطين؟ وماذا كان سيحدث بالعالم لو أجرمت إسرائيل بالشعب الفلسطيني ربع ما فعلته الأنظمة والمنظمات الإسلامية، المدافعة عن القدس، بالكرد والشعوب الأخرى في المنطقة؟ وهم يدركون أن القضية الكوردستانية تقف على رأس القضايا التي بدون حلها لن يكون هناك هدوء في الشرق الأوسط، والمنطقة سوف لن تعرف الاستقرار حتى لو حلت القضية الفلسطينية، وهم يعلمون أيضاً بأنه هناك جدلية بين بقائهم وحل القضية الكوردية، لذلك يعملون شبه المستحيل للإبقاء عليها بدون حل.
استناداً على التاريخ والواقع المرئي، يتجه تفكيرنا عند حضور السؤال المعنون، إلى النفي المطلق، إضافة إلى ذلك درج بأن نحكم بكلمة المستحيل، كجواب صادر من اللاشعور، ولأسباب تكاد تكون واضحة، حيث القضايا المتداخلة إشكالياتها، وتسبق القضايا القومية، والتي تقف في وجهها هذه الأنظمة الفاسدة، إشكاليات تضاربات الأديان، وصراعات مستغليها، الذين يبرزون توجيهات أجزاء من نصوصها دون أخرى، كتلك المؤدية إلى كراهية الأخر، أو لنقل التحريفات التي حدثت في ثناياها بفعل فاعل، عن طريق التفسيرات والتأويلات الملائمة لمصالحهم الذاتية، والتي فقست مذاهب وطوائف متعارضة نشرت الحقد بين المجتمع، وغيبت الحب والخير، وفاقمت من الاختلاف بين القول والفعل، وضاعفت من تعمية بصيرة شعوب المنطقة بتفضيل النقل على العقل. إلى جشع الهيمنة الاقتصادية، ومنابعها، حيث سيادة القوى الخارجية، المسخرة طاقاتها لتعقيد الحلول القومية قبل الدينية، وخاصة فيما إذا لم تحصل على ما تطمح إليه، وكثيراً ما سخرت العامل القومي والمذهبي لمصلحة الثاني، وفاقمت في القضايا التابعة أو المرتبطة بالعاملين الأولين.
وبغض النظر عما يقال عن إلَّهية الأديان النابعة من شرقنا، لم تتمكن الثقافات التي أفرزتها ونشرتها الأنظمة السياسية-الدينية منذ ظهورها وحتى الأن وتحت غطائها من تخفيف الصراع بين القوميات المتعددة والمتداخلة حد الهلاك، بل وحتى بين القبائل داخل القومية الواحدة، وهو ما أدى إلى سيادة سلطات أبرز سماتها: الفساد بكل أوجهه، وعدمية الأخلاق إلى غياب القيم مروراً بنشر الحقد، بل ورسخت ثقافات مليئة بالأوبئة، ولدت منها سلطات متنوعة الإشكال، تكره مجتمعاتها، بل وأغلبها تحبذ أن تكون مكروهة، لتستمر القلاقل والحروب، حيث جدلية ديمومة بقائها، وهي من تقف في وجه القضية الكوردستانية وإثارة النعرات إذا دعت الضرورة أو كلما اقتربت القضية من الحل، حتى ولو كان جزئياً، وأبرز مثال هو ما نراه اليوم من مجريات الأحداث في جنوب كوردستان. ورغم الادعاء بأممية الأديان ظلت المنطقة محتضنة شعوباً بلغات وخصائص مختلفة حد التضارب، ولكل منهم مطالب جغرافية-سياسية تتعارض وطموحات الأخرين، وفي معظم الأحيان، إن لم يكن في كلها، تزول المعتقدات الدينية أمام التعصب القومي، أي يغيب الإيمان بالسماويات عند حضور المسألة القومية، وينزل الإسلام إلى المرتبة الثانية، وقد ظهر هذا واضحاً أثناء ثورة الخميني وعند إسلام أردوغان والمعارضة السورية الإسلامية الراديكالية والليبرالية معاً.
رغم هذا المستنقع، وبما إن منطق المستحيل جدلية مدرجة في الواقع البشري، ومرفوضة في عالم اللاهوت، فبالإمكان البحث في القضايا الأقل تعقيدا من الصراعات المذهبية، التي يربطونها بالأحكام الإلهية، كالقضايا القومية، المحكومة بالمنطق الإنساني، أو لنقل المجالات التي تطمح إليه مجتمعاتنا، والمأمولة حلها حتى ولو كان بشكل جزئي، والتي ستؤدي بالمنطقة إلى بعض الاستقرار، رغم طغيان مفهوم استحالتها.
بدونها نثبت المطلق في الحيز البشري، وكما ندرك وبتحليل فلسفي، من المستحيل ألا تكون هناك طرق لتجفيف هذا المستنقع، وإيجاد حلول للمعضلات العديدة والمتنوعة في شرقنا، والتي خلفت نزاعات دموية أدت إلى كوارث على المنطقة، بدأت منذ زمن ولاتزال جارية، وستستمر، وأولها النعرات الطائفية والمذهبية، والصراعات القومية، إلى جانب قضايا أخرى ستستمر مادامت الصراعات بين مذاهبها بدون حل، خاصة عندما تكون الأديان في خدمة السلطات المهيمنة في شرقنا وبتفاني.
التجربة الأوربية وحروبها المذهبية والطائفية، والطرق التي أدت إلى ما هي عليه من استقرار خير مثال للاستفادة منه، وقد أزاحت السياسة الدين من طريقها منذ ما يزيد على قرنين من الزمن، واليوم بوسعنا القول لم يعد للدين أي دور يذكر في السياسة، ولا يستبعد بأن تكون هذه المرحلة قد بدأت في شرقنا، فما يجري اليوم يشبه المخاض المؤدي إلى تبلور مفاهيم جديدة، مفادها لم تعد السياسة بحاجة إلى خدمات الدين، والتغيير قد تمتد إلى عقود طويلة، ولابد من أن تسبقها نهضة ثقافية يتم فيها ليس فقط تصحيح المفاهيم الدينية بل تعديلها وتنقيتها، والحد من الأحزاب السياسية الدينية، وإن أمكن القضاء عليهم. وهذه تعتبر من أعقد وأصعب القضايا، وإشكالياتها تتجاوز مجال مقال مختصر، وقد كتب عنها الكثير.
أما إيجاد الحلول للصراعات القومية في المنطقة والتي ظهرت بفعل فاعل، وبرزت على الساحة في بدايات القرن الماضي، أسهل من الراسخة بين المذاهب الإسلامية، وأهمها تلك المعانية منها الشعوب التي لاتزال تحت الاحتلال، كالكورد والأمازيغ والقبط وغيرهم، وبدون إيجاد حلول لقضاياهم القومية فستظل الصراعات مستمرة، وسوف لن ترى المنطقة الهدوء.
الأنظمة الموجودة هي المستفيدة دون شعوبها، وهي التي تقف حجرة عثرة أمام حل القضية الفلسطينية-الإسرائيلية، وهي من عقدتها وعلى مراحل، عقداً بعد آخر، وليس سراً ما تقوم به إيران وتركيا وبعض الدول العربية بحق القضية الكوردية، وجعلها قضية معقدة، معدمة الحل، بل لأن وجودها تمنح الأنظمة المستفيدة الاستمرارية، والتي لا تهمها مصالح شعوبها، ومثلها قضية الأمازيغ والقبط، علماً أن التاريخ أكثر من واضح في هذا.
الصراعات الجارية هي حصيلة الجهل المغروز مكان حضارات أجدادنا، ولا زلنا نعاني ديمومتها، والجهالة في شرقنا ذات أوجه متنوعة، تغذيها الأنظمة السياسية، والحاضنات المذهبية، وهؤلاء من مصلحتهم تصعيد الصراعات القومية، وديمومة النزاعات، ولذلك اشتركتا بشكل أو أخر، في تحريف شعار الانتفاضات الشبابية، وفعلوا كل ما تمكنوا منه للقضاء عليهم كحركات مستقلة، وبطرق متعددة تمكنوا من استغلال العديد منهم وتسخيرهم لأجنداتهم، علماً أن انتفاضاتهم ومسيراتهم كانت بداية ثورات من أول مهماتها القضاء على الأنظمة الفاسدة الموجودة في شرقنا.
بعد أن تمكنوا من إخماد الثورات الشبابية، أحيوا المنظمات الإسلامية التكفيرية، للقضاء على المفاهيم التي أدت إلى ظهور الحركات وبهذه الجرأة، وواجهت أشرس الأنظمة الدكتاتورية، ولإتمام المهمة لابد للنزاعات أن تستمر لعقود أخرى، فالمرحلة لم تنتهي بعد، وإدامتها تحتاج إلى حجج يقنعون بها ذاتهم ويخدعون شعوبهم، فاتجهت أنظارهم نحو المكتسبات التي حصل عليها الكرد، أو التطور الذي حققوه رغم اللهيب المفتعل في المنطقة، وتدمير ما تم من تطور في مجال العمران وعلاقاتهم الإنسانية في حيز شرقنا الأوسط.
اشتركت معظم الأنظمة المحتلة لكوردستان، المفروضة على شعوبنا من قبل الدول الكبرى، والمؤججة الخلافات الدامية، في حبك المؤامرة على الشعب الكوردي، وذلك منذ عام 2014م، وخططوا لتفعيلها من الداخل الكوردستاني وخارجها، وطرقوا أبواب جميع الأروقة الدبلوماسية العالمية، وسخروا لها حملات إعلامية ضخمة، إلى درجة أنها تمكنت من إغواء شريحة من الحركة الثقافية والسياسية الكوردستانية، جعلتهم ينسون الأعداء الحقيقيين، ملتهية بالعداوة فيما بينها، وعلى قضايا ساذجة، خدموا ولازالوا يخدمون الأعداء بدون وعي، ومنها التشهير وتخوين البعض، في الوقت الذي كانت فيه المجموعات الفاسدة تحفر للخيانة بالوطن وبجهالة، وبإملاءات خارجية.
بما أن الأنظمة الحالية في المنطقة لن تقوم بحل القضايا القومية في المنطقة، وعلى رأسها القضية الكوردستانية، فيتوجب على الحركة الكردية إقناع الشعوب المجاورة والدول الكبرى المهيمنة على أنظمة شرقنا، والتي لها مصالح اقتصادية في المنطقة بالحقيقة الدامغة، وهي أنه لن يكون هناك استقرار في المنطقة ما لم يتم اجتثاث الأنظمة الفاسدة وحل القضايا القومية، والتي بينها علاقة جدلية، فلا يمكن حل واحدة وترك أخرى، وحل القضية الكردستانية أهمها، بسبب عدة عوامل منها الجغرافي والديموغرافي والاقتصادي، إلى جانب تأثيرهم على العامل الديني-المذهبي.

المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر الموقع

التعليقات مغلقة.