عندما عاد والدي برفقة اثنين من أصدقائه البيشمركة منتصف آذار من عام 1975، من جبهات القتال، ونصح رفيقا والدي والدَتي بأن تنتبه له لأنهما أمسكاه قبل أن يقتل نفسه بسلاحه، وسحبا منه السلاح، كنت في العقد الأول من عمري، لم أفهم شيئا، فقط أصبتُ بالحزن لأن والِدَيَ كانا حزينين، لكنني أردت أن أسترق الكلام من أفواه الكبار في وقته، لماذا كان والدي يريد أن ينتحر، ولماذا عندما عاد كان حزينا؟! كل من هب ودب، كان يقول حينه بأن كل شيء قد انتهى وتم بيع كردستان، وتركنا الجبل، لم نذهب لإيران ولا لتركيا كغالبية من كان رجالهم ملتحقين بالبيشمركة، فلم نكن نملك حينها إيجار حمار أو أتان لنقطع بها جبال الحدود العصية على التنقل، اضطررنا للعودة واستسلم والدي للجيش العراقي ونفي للجنوب ليقضي خمسة سنوات من عمره بعيدا عنا هناك في عرعر على الحدود مع السعودية، وبقيت أنا الطفل صاحب التسع سنوات مع إخوتي الست -حتى ذلك التاريخ- ووالدتي لنسكن غرفة إيجار ترابية، في حي من أحياء دهوك الفقيرة.. أخي -رحمه الله- وأختي كانا يكبرانني بسنوات كنت أزعجهما بأسئلتي: – كيف بيعت كردستان؟ – من باع ومن اشترى؟ ولماذا بيعت؟ وإذا بيعت كردستان فما مصيرنا، من سيشترينا ومن سيبيعنا؟ كنت أرى الغضب من وجهيهما عندما كنت أسألهما هذه الأسئلة المزعجة، حيث لم يكونا يريان بين يديهما أجوبتها، ولم يستطيعا إقناعي بشيء.. شاه إيران “محمد رضا بهلوي” (الجزيرة) راحت أيام وجاءت أخرى، عرفت بأن شاه إيران باع كردستان إلى صدام حسين الذي اشتراها بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودة! بعد أن تنازل عن مواقع استراتيجية حدودية عراقية كانت إيران تنازع العراق عليها، فسَدّ شاه إيران الباب على كردستان، ومنع ملا مصطفى البارزاني من العودة إليها من طهران، وفتح حدوده الشمالية الغربية للجيش العراقي للدخول إلى إيران ومحاصرة البيشمركة في كردستان، هكذا ببساطة سَلّم شاه إيران كردستان لصدام واستلم الثمن في الجزائر عام 1975، بإشراف أمريكا التی دائما یوصف الكوردُ من أعدائهم بالعمالة لها ولإسرائیل! لكن التجارة تلك كانت سُحتا حراما فلم ینعم بها لا شاه إيران الذي انتهى بعد ذلك حكمه بأربع سنوات، وقضت عليه ثورة عارمة أنهت كل شيء له، ولا صدام حسين الذي تراجع عن اتفاقية السُحت الحرام هذه مع الشاه فوقع على إثر ذلك في حرب مع إيران لمدة ثمان سنوات، أرجعت العراق عشرات السنين للوراء، وكلّفته مع إيران ما يقارب المليون قتيل مناصفة، وإضعاف ذلك الرقم من الأرامل والأيتام، وضِعف ذلك من المعاقين، وغزو الكويت وحربا دولية على العراق ومن ثم حصار وحرب أخرى حتى القضاء على نظام صدام عام 2003 ولم تنتهي سلسلة الكوابيس تلك على العراق حتى اليوم! هي الكوابيس المترتبة على البيعِ غير الشرعي لكردستان بين العراق وإيران. فضولي دفعني بعد ذلك للاطلاع على التاريخ الكردي بعد أن حُرموا من الدولة بعد الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس بيكو، فرأيت العجب العجاب في التجارة بكردستان بين من يبيع ومن يشتري!! خاصة بعد أن أصبحت تلك التجارة رائجة بعد أن تم تقسيمها ككعكة بين مصالح بريطانيا وفرنسا، فقُسمت كردستان -الكعكة- بين تركيا والعراق وسوريا وإيران، وبهذا كَثُر التجار من بائعين وشارين ولمدة مائة عام. بيعت كردستان في مهاباد أيضا عام 1947 عندما باعها السوفييت لإيران بحضور بريطانيا كشاهد، فاستلم السوفيت الثمن بمصالح اقتصادية وأهدت جمهورية مهاباد الكردية لإيران لتعدم هي رئيسها ووزرائها، وتطمس حُلم الدولة الكردية، لأجيال بعد أجيال.. وبيعت قبل ذلك ثورة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية عندما أعلن عن مملكة كردستان، واشترك هذه المرة شیوخ عشائر كردي في البيع لصالح الإنجليز، وبعدها راجت التجارة لتباع كردستان في تركيا ما بين اتفاقیة سيفر ولوزان كي لا يكون هناك شيئا اسمه القضية الكردية، والبيع بعد ذلك سار على قدم وساق، ولا يزال.. بعد اثنين وأربعين سنة من البيع الأول الذي كنت فيه حاضرا كطفل، وبعد أن عبرت نصف قرن من عمري، ويقدر الله أن أكون شاهدا كصحفي هذه المرة لنقل ما يقع من الأحداث في منطقتنا قلب الأحداث النابض، وبالتحديد فجر يوم السادس عشر من أكتوبر من عامنا هذا 2017، نقلت ذلك المشهد الذي يتكرر حيث بعد كل نصر قصير تعقبها هزيمة، فكانت هزيمة كركوك! وأسرعت لمقابلة مسلحين كرد متطوعين كانوا هاربين لاستفسر منهم ما الذي يحدث وأنقله لمحطتي، فإذا بهم يقولون انتهت كركوك، بيعت.. بيعت.. من باع؟! ومن اشترى؟! فصول الصفقة اتضحت سريعا، أطراف البيع هذه المرة، كانت على عكس المرات السابقة حيث اشترتها إيران من أمريكا وكانت أمريكا هي البائعة بمشاركة عملاء محليين لصالح الطرفين، طبعا بحضور شهود: تركيا، العراق، بريطانيا، وغيرهم والشاهد طبعا لم يحضر مجانا! لكن تفاصيل البيع والشراء ماذا ومقابل كم؟! لا تزال بحاجة للكشف والبحث عنها.. هكذا تبدو كردستان السلعة الأكثر رائجة للبيع والشراء، كما العبد الذي كان يباع في أسواق النخاسة في قديم الزمان، حيث لم يكن يملك من أمره شيئا.. عندما سألني ابني يوسف صاحب التسع سنوات، بعدما عدت منهكا من تغطية صحفية كانت الأكثر إزعاجا من غيرها، لماذا ترك البيشمركة كركوك؟ يعني هل كركوك الآن ليست كردستان؟ هل مات الذين كانوا يقولون في التلفزيون بأنهم لا يتركون كركوك إلا على جثثهم؟ ولماذا العراق يهاجم كركوك وكردستان، ألسنا عراقيين؟ أسئلة يوسف كانت أكثر وعيا من أسئلتي عندما كنت في عمره عام 1975، وكنت أسألها لأخي وأختي اللذان كانا يكبرانني، لا أدري هل ذلك من حسن حظه أو سوئه، لكن أسئلته كانت تزعجني كثيرا، تزعجني أكثر من تغطيتي الصحفية في ذلك اليوم.. ثم سردت له القصة عن البيع والشراء فقال يوسف لي: “بابا: لماذا لا نبيع كردستان نهائيا بدون قتال ودم ودمار، ونشتري بثمنها جزيرة وسط بحر بعيدة بعيدة لا تكون العراق جنوبنا، ولا تركيا شمالنا، ولا إيران شرقنا ولا سوريا غربنا، ولا تكون فيها لا أميركا ولا بريطانيا، نكون وسط بحر.. فقط البحر حولنا.. ونبنيها ونعمرها ونجعل منها جنة.. كجنة كردستان التي ننشدها ونغني لها دائما ولا نراها ونعيشها!.. أليست هناك جزرا وسط بحر لا يريدها أحد.. نشتريها ونعيش فيها..”. نمت على كوابيس أسئلة يوسف، فلم أرى في أحلامي ردا عليها، حتى نهضت متأخرا لفجر يوم الثامن عشر من أكتوبر من عامنا هذا 2017 لأوقظ يوسف من نومه ويتوجه لمدرسته بوجه عبوس قمطرير”.
أحمد الزاويتي ….
التعليقات مغلقة.