الدكتور محمود عباس: كيف سنتجاوز المحنة..
لا جدال على أننا خسرنا، ونكسة أخرى أضيفت إلى صفحات تاريخنا، فقد كان يجب علينا توقعها أو باحتماليات مشابهة لها، وذلك على خلفية الأخطاء التي سايرت بناء الإقليم، قبل العوامل الخارجية، رغم كل الإيجابيات، واحتمالية حدوث مثلها في جنوب غربي كوردستان متوقعة (وهنا نقصي التهجم الذي كان يتم على الإقليم والمعروض بصيغة النقد على خلفية صراعات حزبية أو غايات شخصية).
ولا يهم أن كانت خسارتنا لمكتسباتنا قليلة أو كثيرة، وهل ستؤثر على مستقبلنا لفترة قصيرة أو طويلة، بل المهم أن نتداركها وهي في مراحلها الأولى، وذلك من خلال معالجة قضايانا الذاتية قبل ملامة القوى الكبرى، ونحلل بيئتنا الداخلية: فهل هي تسهل فعلا للقوى المتربصة بكوردستان بلوغ غاياتهم؟ وإن كانت كذلك، فماذا يتوجب علينا فعله؟ ولماذا نسقط في الأخطاء ذاتها، حتى ولو كانت بأوجه مختلفة؟
لابد من البحث، دون أن نشمت في ذاتنا تكفيرا أو تسهيلا لآثار الصدمة، ولنبتعد عن تصغير شخصيتنا، بل المهم هو معرفة جوانب النقص، وكيفية معالجتها. وعلينا ألا نلهي ذاتنا كلياً بالقضايا الصغيرة، المفتعلة من قبل الأعداء للتغطية على القضية الكبرى، كتضخيم قضية كركوك، أو تخلي الدول الكبرى عنا، أو خروج القوات الأمريكية من جنوب غربي كوردستان، أو تراجع البيشمركة عن المناطق المتنازعة عليها، أو استقالة السيد مسعود بارزاني، أو الخلافات الحزبية الداخلية، مثل الانشقاقات الحزبية المتتالية والمفتعلة لإلهاء الشارع بها لجعلهم يتناسون القضية التي من أجلها ظهرت الأحزاب، وحتى الخيانة بحد ذاتها تدرج ضمن القضايا الفرعية التي تحدث بين كل الشعوب، وفي كل الدول، حتى السيادية منها. ويجب ألا نسمح لهذه الإشكاليات العرضية بالتضخم لتغطي على الاهتمام بالقضايا الرئيسية: وهي كوردستان، والصراع مع الأعداء، وتقوية الانتماء إلى الوطن دون الحزب أو القائد. يجب أن نتشارك في دراسة الواقع لئلا نجتر الأخطاء ذاتها، ونتعامل بدراية مع الدول المحتلة لكوردستان، ونفصل بين مخططاتهم الثانوية التي يلهوننا بها، عن استراتيجيتهم الكبرى: ومن ضمنها، أيقاف مسيرة صعود القضية الكوردستانية في المحافل الدولية.
لا ننسى أن الاهتمام العالمي بنا أصبح يخف، أو بالأحرى أصبحنا على مقربة من خارج مجال مصالحهم، خاصة بعد اقتراب نهاية داعش العسكرية في المنطقة، وظهور بوادر زوال المعارضة السورية السياسية والعسكرية، وعودة الاستبداد إلى الساحتين السورية والعراقية، وظهور بوادر تقارب بين إيران وتركيا حتى ولو كانت على خلفية المصالح الاقتصادية القومية، وغلبة المصالح الاقتصادية الأمريكية والروسية على المبادئ والإيديولوجيات، والكورد في الوقت الحالي أضعف من أن يتقدموا على الدول الإقليمية في تلبية مصالح الدول الكبرى، الاقتصادية بشكل خاص.
مع ذلك كثيرا ما نسأل عن أسباب تخلي الدول الكبرى عنا، أو وقوف مؤسساتها أو مسؤوليها عن المنطقة إلى جانب القوى الإقليمية، أو لماذا يجرفون مصالح دولهم مع مصالح السلطات المحتلة، ويتناسون القضية الكوردستانية، ونتناسى بدورنا أن هناك عوامل ذاتية، إما تنفرهم منا، أو لا تجلب انتباههم إلى أن كوردستان المستقبل ستخلق البيئة الأكثر ملائمة لمصالحهم، من حيث الحيز الديني والاقتصادي والسياسي، وحتى الاجتماعي.
ولتداخل هذين العاملين، ورغم الضعف الذاتي الواضح تتجه الحلول الكوردستانية نحو مسارين: والخيار بين الحلين تستند على مدى قدرتنا في تصعيد القضية الكوردستانية، على الساحتين الإقليمية والدولية، وبأسلوب منطقي، بحيث نتمكن من الحفاظ على ديمومة جلب انتباه الدول الكبرى ومؤسساتها.
الأول، وهو بناء الدولة الوطنية، أو كما يسخر لها إعلام الدول المحتلة لكوردستان، ويعرضونها أمام الدول الكبرى كأمثل حل لشعب تعداده 40 مليون إنسان وأكثر، والغاية منها تذويبه قوميا، وتهميش سيادته على جغرافيته، والقضاء على لغته ببطء، وبالتالي القضاء على القضية الكوردستانية، وإبراز الذات بالشكل الحضاري في حل القضايا القومية، وإظهار الحركات الكوردستانية التحررية كمنظمات عنصرية، أو إرهابية كما تنادي بها تركيا في المحافل الدولية، وفعلها الخميني أثناء ثورة البارتي الديمقراطي وعلى أثرها قاموا باغتيال زعيمها عبدالرحمن قاسملو، ومثلهما فعلتها جميع السلطات العراقية مع ثورات بارزاني الخالد. وهذا الحل رغم وجهه الحضاري، أصبح منفيا حتى في العالم المتطور، مثلما حدثت في أسكوتلندا ومنطقة الكويبك الكندية وكتالونية الإسبانية والباسك الفرنسية الإسبانية وغيرها من المناطق وبين الشعوب الأوربية. فالقبول به في المجتمع الغارق في عالم الاستبداد وثقافة إلغاء الأخر، ليس سوى انتحار ذاتي، وبسذاجة، والمستفيد الأول والأخير منه ليست شعوب هذه الدول، بل الأنظمة الشمولية، والشرائح الشوفينية المعادية لتحرير شعوبهم من مفاهيم الاستبداد والفكر المطلق، وسيادة النقل على العقل، وثقافة الجمود حيث الوطن ذات الدين الواحد واللغة الواحدة. وهذا المفهوم تروج، بل تصر عليه المعارضة السورية، المتكالبة على السلطة، في جميع مؤتمراتها، رغم سقوطها المدوي، والغريب أنه عامل مهم يجمعها مع سلطة بشار الأسد، وبدأت تطالب به سلطة بغداد الشيعية، ومثلها تركيا الأردوغانية مفضلة ذاتها على الأحزاب التركية الأخرى أمام الشعب الكوردي، ومتباهية بالوطنية التركية أمام الدول الحضارية الكبرى، وإيران تزيد عليهم بالانتماء إلى الوطن ذات المذهب الواحد، وفي النتيجة نهاية واحدة للكورد وكوردستان، وهي الانحلال، وليت كان هناك مقابلها حياة اجتماعية اقتصادية سياسية إنسانية.
والثاني، وهو الذي أنتجه الاستبداد، أو نتج من جراء بشائع السلطات الاستبدادية، مثلما حدث في القرنين الماضيين في أوربا، وترافق مع بناء الحضارة، وهو ما يجب أن تركز عليه الشعوب المحتلة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كالكورد والأمازيغ والقبط، كقدوة للشعوب الأخرى، إما ببناء كيانهم الخاص، أو كيانات فيدرالية أو كونفدرالية ضمن جغرافيات مشتركة، كمرحلة أولية تلحقها الاستقلال. ولا شك هذا الحل يتعارض كليا مع مصالح الأنظمة الاستبدادية الإقليمية المحتلة، لذلك فهي تقف في وجهها بكل إمكانياتها، ووجدنا كيف تتخلى عن نزاعاتها الكبرى المذهبية والقومية للحد من طموح هذه الشعوب، وتقدم كل ما تتمكن منه للدول الكبرى، لتشويه هذا المطلب، ومن أجلها يسخرون لوبيهم، للتأثير على الشخصيات أو المؤسسات المتكفلة بقضايا هذه الشعوب، وهو ما حدث في النكسة الأخيرة لجنوب غربي كوردستان، ولا نستبعد أن نفس العمل يجري الأن في أروقة الدول الكبرى وخاصة في روسيا وأمريكا، بالنسبة لجنوب غربي كردستان، ولا نستبعد أن تصبح هذه المسألة من أهم عوامل الاتفاق بين أغلبية المعارضة السورية وسلطة بشار الأسد.
ولا شك هناك عدة محاور يجب العمل عليها لتجاوز المحنة، والإبقاء على القضية حية ومنها:
1- بغض النظر عن تحركات ونشاطات حكومة الإقليم، يجب تنشيط الحراك الداخلي كإقامة مؤتمرات بين أطراف الحركة الكوردستانية حتى ولو استمرت الخلافات الحزبية، والحفاظ على القوة العسكرية، وهذه ستكون لها صداها على الخارج، وستعيد انتباه الدول الكبرى، وفي المؤتمرات لا بد من إعادة عرض الحل الفيدرالي الأوسع، كمرحلة استباقية، لمطلب أعلى.
2- على الأغلب أن الحركة الكوردستانية تجاوزت أجواء الرهبة من المربعات الأمنية، وعليه فلا بد لها وخاصة الأحزاب أن تتخلى عن الساحة أو تعيد تركيبتها على منطق الإصلاح الذاتي وتتحرر من الإملاءات الخارجية، وتبين للمجتمع بأنها لم تعكس يوما رأي الشارع الكوردي، ولم تمثله، سيطرت على الساحة بمساعدة المربعات الأمنية، والتي كانت تعرف كيف تقرأ رأي الشارع ومفاهيم المجتمع، وتفرض الأحزاب بكل سلبياتها عليهم، مستغلة خلفية الفراغ السياسي الذي أحدثته أنظمتها الشمولية. تشتتهم وخلافاتهم الساذجة تعكس هذه الحقيقة.
3- يتوجب على الحركة الثقافية الكوردستانية التركيز على التفاؤل والثقة بالذات، فالنكسات لم تكن يوما مدمرا للشعب وللقضية بقدر ما كانت إيقافا للمسيرة وإعاقتها لفترة زمنية ما، فالمطالب التي ورائها شعب واثق من قضيته ومتفائل لا بد وأنه سينتصر يوما، تحليل الماضي والثورات الكوردية، والحروب الداخلية، بمنطق التشاؤم والشماتة بالذات، والترويج لأخطائنا من منطق النقد الذاتي المغطى بالسوداوية، وغياب التحليل والاستنتاج، تؤدي إلى ردود فعل عكسية تفيد الأعداء وتخمد همة الأمة.
4- الشعب الكوردي لا تنقصه الجرأة، في مواجهة الواقع بكل سلبياته، عاشها وتجاوزها، وما يحتاجه ليست المساعدة بقدر ما يحتاج إلى خلق تراكم معرفي، ومساعدة الشرائح المبدعة أو التنويرية الثقافية والسياسية، فالكورد يحتاجون إلى الإبداع لتقديم الاستنتاج الصحيح لنكساتنا وحروبنا الداخلية وفشل ثوراتنا، وفي التعامل السياسي والدبلوماسي مع القوى الإقليمية والدولية.
لا شك الأمة الكوردية تمتلك كل المقومات الضرورية لبناء كيانها الذاتي، لكن هل بإمكانها تقديم الأفضل وتجاوز الأنظمة المجاورة، وهل حركتها السياسية والثقافية على قدر المسؤولية، وهل استراتيجية الدول الكبرى مخططة فعلا لعدم إنشاء كيان كوردستاني؟! أم أن الشعب الكوردي أو بالأحرى حركته لا تزال دون الكفاءة، وما هو أسباب عدم كفاءته رغم ما قدم نخبته للشعوب المجاورة خير المفاهيم والأفكار، وقادوهم إلى السيادة. هذه الأسئلة وغيرها تطرح على طاولة المراكز الاستراتيجية في الدول الكبرى عند حضور القضية الكوردستانية، فماذا نحن فاعلون لتغيير الصور النمطية الجاهزة عند الدول الكبرى عنا، وعن قضيتنا، وماذا نحن فاعلون لتغيير موازين مصالحهم لجهتنا، لا يكفي بأنهم يعرفون قضيتنا بتفاصيلها، وأنهم مطلعون على كل التفاصيل الجارية في المنطقة، بل لا بد من تكثيف جهودنا في اتجاهين، تقبل بعضنا رغم خلافاتنا، وخلق قوة دبلوماسية تتعلم كيف تتعامل وتقنع المؤسسات المسؤولة عن القضية الكوردستانية.
المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر الموقع
التعليقات مغلقة.